الشيخ و.. المنبر!

TT

إذا ما تحدثت مع السعوديين اليوم وسألتهم من هم رموز الخطاب الدعوي الجديد، سيجاوبونك بمجموعة من الأسماء مثل سلمان العودة وعائض القرني وعبد الله فدعق ومحمد العريفي وسعد البريك وأحمد بن باز، مثلما لدى المصريين خالد الجندي وعمرو خالد ومبروك عطية، والكويتيون لديهم طارق السويدان ومحمد العوضي ومحمد الطبطبائي. ولكن يبقى الحديث عن «التحول» الهائل الذي طرأ على خطاب الدكتور سلمان العودة مسألة تستحق الوقوف والتأمل، لأن الرجل كان يحسب في وقت من الأوقات القريبة على تيار التطرف وكانت آراؤه مضربا للأمثال في التشدد، ولكنه تغير بالتدرج.. مقالاته الكتابية، وأسلوبه في الحديث، حتى في صوره الفوتوغرافية بدا أكثر بشاشة ولطفا وتأدبا.

حديث سلمان العودة تحول إلى فكر أكثر ملاءمة للعصر يتعرض للقضايا المختلفة بأسلوب عقلاني ووسطي يراعي فيه مقاصد الشريعة ويتعامل بمبدأ إحسان الظن، وهو ما كان يغيب عنه سابقا ولا يزال يقع في شراكه وأسره الكثيرون من أصحاب الفكر التقليدي المتشدد. وعلى الرغم من أن معظم المتابعين لتطور فكر سلمان العودة يجيرون أسباب هذا التغير للرجل نفسه (وهذه طبعا مسألة أكيدة)، فإن للمنبر الكبير والواسع الذي يقدم فيه سلمان العودة خطابه الإعلامي أهمية كبرى، وأعني هنا محطة الـ«إم بي سي». وهي المحطة الترفيهية المتنوعة الأولى في العالم العربي، ويتابعها شرائح غير متشددة من مختلف الأعراق والأجناس والثقافات والأعمال في شتى بقاع العالم، مما يفرض عليه مفردات وأفكارا وتوجهات لا يمكن أن يقدمها ضمن الإطار المحلي أو الإعلامي المتشدد التقليدي. فنوعية الأسئلة والقضايا والأفكار التي تطرح عليه هي جديدة ومختلفة، فالسائلون يعيشون في أوساط مفتوحة ويتفاعلون مع مخالفين لهم في موطن وفي مهجر، ولا يمكن تقديم جرعات لهم من الخطاب المبسط والسطحي المليء بعبارات التشدد والتنطع الذي سيجبرهم إما على الانعزال والتقوقع، وإما على معاداة ومحاربة الآخر، وهي مسألة لا يمكن أن تستقيم أو يكون قد أمر بها الشارع والدين الحنيف. ولذلك كان لـ«المنبر» الذي ينطلق منه سلمان العودة دور مهم جدا لا يقل أهمية عن التغيير نفسه الذي طرأ على فكر الرجل.

المنبر الإعلامي ساعد وفرض على الرجل خطا منفتحا، لأن جمهوره بات لا يتوقع أقل من ذلك، وكان سيرفض أي خطاب آخر. وهي مسألة ذكية تحسب لسلمان العودة لحسن قراءتها للجمهور المتلقي، وأنه اليوم بات في ساحة أخرى ومناخ مغاير تماما لما كان عليه في السابق. وتابع الكثيرون حراكه وهو يتفاعل مع الناس في حلقات بثت من لندن وتركيا، وفي زيارات للمغرب ولبنان وغيرهما من الدول. الشيخ والمنبر الجديد كانا في حاجة ماسة إلى بعضهما، وهناك تناغم وتكامل واضح، ولذلك نجحت التجربة واستمرت. ونظرا إلى تفوق المنبر نفسه على الساحة الإعلامية وتبوؤ المحطة مراتب عليا في نسبة المشاهدة وجودة ما يقدم من ناحية المعايير والقياسات الفنية، كان لا بد أن يراعي البرنامج معايير وأساليب وشروط ذلك في إعداد البرنامج وإخراجه، ولذلك خرج على الشاشة بأسلوب أكثر جاذبية مما يقدم في بعض المحطات الأخرى التي لديها مواد دينية تقدم على شاشاتها.

السعوديون لديهم في الذاكرة أسماء متنوعة قدمت على شاشاتهم ما يمكن أن يطلق عليه البرنامج الديني التقليدي الوعظي الإفتائي بشكل بسيط وسلس أقبل عليه الناس بصدر رحب، مثل علي الطنطاوي وعبد العزيز المسند ومحمد متولي الشعراوي. ولقيت هذه البرامج رضا الناس على الرغم من بساطة الأسلوب، وهو الذي جعلها تدخل القلوب، مع عدم التقليل من غزارة علم الشيوخ المقدمين لهذه البرامج، وبعدها أتت حملة وفوضى الخطاب المتشدد والفتاوى والأفكار الموتورة، وكان لا بد بعدها أن يحصل التغيير. فتغير المنبر ومعه تغير الخطاب. سلمان العودة والـ«إم بي سي» والنجاح المشترك بينهما هو صورة مهمة للتغيير الذي يحدث على الساحة الإعلامية من جهة، وعلى الخطاب الديني السعودي الجديد من جهة أخرى.

[email protected]