الحنين إلى عصر النهضة

TT

لا تزال أحاديث المثقفين العرب، منذ ما يربو اليوم على نصف القرن، تحمل حنينا جارفا إلى «النهضة» وتطلعا إلى فكر الحقبة التي نتواضع على تسميتها «عصر النهضة». من المعلوم أن الحنين إلى الماضي يحركه الشعور بالنقص والحرمان في الحاضر، ويوقظه في النفس الإحساس بالمرارة وخيبة الأمل، فيكون اللجوء إلى الماضي مرفأ لنفس تنشد الاستقرار، وملاذا لفكر يتشوق إلى غد أفضل، غد يراد له أن يكون حاملا لبعض من سمات الماضي الذي يشعر بالسكينة ويحمل على الأمن والثقة. والمثقفون العرب يقرون، بكيفيات شتى، أن عصر النهضة قد قدم على أسئلة عسيرة إجابات مقبولة وإن لم تكن في الأحوال كلها شافية. يجوز القول - في تقدير الجمهرة العريضة من المثقفين العرب المعاصرين - إن فكر النهضة (متى قارناه بالحال التي يوجد عليها الفكر العربي الإسلامي اليوم) كان أكثر توفيقا في تقديم الأجوبة على الأسئلة التي يطرحها الوجود الاجتماعي والسياسي والديني ويفرضها واقع التحول السريع في مختلف الأصعدة المذكورة.

كان مفكرو «عصر النهضة» أكثر إيجابية وتفاعلا مع العصر من العدد الكثير من مفكرينا اليوم. بل إن البعض من مفكرينا النابهين، في زماننا هذا، يذهبون في الإشادة بالفكر العربي في عصر النهضة إلى أبعد من ذلك. فهنالك من يرى أن مفكري عصر النهضة كانوا مندرجين في مشروع تنويري جماعي فلم يكن الفكر يجنح هنا وهناك ولم تكن الرؤى تتباين بتباين الموقع الذي يكون الصدور عنه (فلا فرق جوهريا كان بينهم في الفكر) وبالتالي فإن الأفغاني وعبده وقاسم أمين والطاهر الحداد وشبلي شميل وجورجي زيدان.. كانوا يعبرون عن المشروع الواحد بلغات مختلفة. وهناك من يدعو لا إلى استلهام فكر «النهضة» في معالجتنا لمشكلاتنا الحاضرة بل يرى وجوب «استئناف» مشروع النهضة العربية التي امتدت حركتها حتى أواسط القرن الماضي استئنافا أكثر راديكالية، وتلك هي الدعوة التي يتحمس لها ناصيف نصار.

هل في إمكاننا اليوم أن نستأنف ما قام به أجدادنا مع تباين الأزمنة واختلاف الظروف؟ ثم: هل نملك أن نقول إن حال الإنسان العربي في القرن الـ21 مغاير بالجملة لما كان عليه الشأن في «عصر النهضة»؟ سؤالان حارقان تحملنا عليهما «نوستالجيا» النهضة وما يثيرهما فينا واقع الحال من لواعج تجعلنا نلتمس الجواب في زمان ولى، زمان هو في حقيقته تركيب وجداني من أزمنة متعددة (كما سنسعى إلى بيان ذلك بعد هنيهة). بيد أن السؤالين يستوجبان التمهيد لهما بجملة ملاحظات تتصل بعصر النهضة وبالفكر العربي الإسلامي في ذلك العصر. ملاحظات نسوقها على وجه الإيجاز.

الملاحظة الأولى هي التي لمحنا إليها، إذ قلنا قبل قليل إن «عصر النهضة» كما يمثل في الوجدان العربي المعاصر تركيبا من عصور متعددة ومتباعدة. فالقصد به، أولا، هو «النهضة» التي أعقبت «السقطة» التي وقع الإنسان العربي فيها، فظل فيها زمنا غير يسير لأنه الزمان الطويل الذي استغرقه «عهد الانحطاط». ولو أنك تساءلت عن معنى «الانحطاط» لأتاك الجواب في حقيقة الأمر مضطربا بعيدا عن الوضوح. فالانحطاط يعني، لغة، النزول عن رتبة معلومة. أما الرتبة التي كان النزول عنها فهي في الواقع رتبة فضفاضة لا يحدها زمان بعينه ولا يحتويها مكان بذاته. فهي، بالفعل، تركيب لأزمنة وأمكنة عدة. الزمان الأول فيها هو زمان «بيت الحكمة» وزمان التأسيس للعلوم العربية الإسلامية كلها (تأسيس النحو والبلاغة، وتأسيس علوم أصول الدين والفقه والفلسفة، فضلا عن الجبر والطب والهيئة..). وأما الأمكنة فهي دمشق في العصر الأموي المزدهر، وهي بغداد أيام القوة والمجد، وهي الأندلس «زمان الوصل»، ثم هي القاهرة والقيروان وفاس... فالانحطاط نزول عن رتبة تعلو على الأزمنة وتقفز فوق الأمكنة.

الملاحظة الثانية، ونحن لا نملك في الحديث عنها إلا أن نبتسر القول ابتسارا كما فعلنا في السابقة عليها، هي أن المرحلة التي ننعتها بالنهضة مرحلة متحركة، متبدلة، وهي كذلك لأنها توجد في الوعي العربي المعاصر أكثر مما توجد في الواقع. الحق أن نقول إن الوعي وحده هو مجال وجودها، والوعي بطبيعته لا يلتصق بالأزمنة ولا يراعي ترتيبها. ذلك أن الوعي له زمانه الخاص به وحده مثلما أن له منطقه الذاتي الخاص به. لذلك نجد أن «النهضة» تطلق، في الوعي العربي المعاصر، على الآراء الإيجابية التي أبداها رفاعة الطهطاوي واللاحقون عليه من الرحالين العرب إلى أوروبا (الدعوة إلى الاقتباس مما يشاهد في الغرب الأوروبي من أسباب الحضارة الحديثة ومن النظم الحديثة في الجيش والمالية والإدارة والتعليم..). كما يطلق نعت الفكر التنويري على جملة الإصلاحات التي كان يدعو إليها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وتلاميذهم المباشرون. وحيث إن أفكار من ذكرنا من الإصلاحيين العرب ومن الإصلاحيين المسلمين من غير البلاد العربية كانت تقف عند عتبة القرن الماضي أو تخطوها بسنوات قليلة إلى الأمام، فإن الوعي العربي كان يعمد، مرة أخرى، إلى القفز فوق الأزمنة فينسب إلى «عصر النهضة» مفكرين متأخرين عن الحقبة التي عاش فيها جيل الرواد أمثال طه حسين والعقاد وسلامة موسى ثم ابن باديس وعلال الفاسي وقبلهما الطاهر الحداد في تونس والحجوي في المغرب، وكذا، أحيانا، ثلة من علماء الأزهر.

الملاحظة الثالثة هي أن النهضة، أو بالأحرى حضور النهضة في الوعي العربي، كانت تعني ما يصح نعته بوعي «التأخر المزدوج»: التأخر عن ركب الإنسانية المتقدمة، والتأخر عن العصر «الذهبي» (ذلك الذي قلنا عنه إن تصوره في الوعي العربي كان تصورا مطاطيا بل وربما كان هلاميا). النهضة إذن هي وعي بهذا التأخر المزدوج وإرادة لمجاوزته في الوقت ذاته. يمكن القول، في عبارة أخرى، إن «النهضة» تعني، من جهة أولى، استمداد القوة والشجاعة من الماضي الذهبي، ومن جهة ثانية الإقبال على الحاضر وعدم الخشية منه وذلك بالإقبال على من يمتلك الحاضر، أي الغرب الأوروبي. والفكر العربي في عصر النهضة كان كذلك – ومفكرو الإسلام كانوا يتوافرون في ذلك على جرأة كبيرة يفتقدها اليوم الكثير من نظرائهم من المفكرين حتى لا نسوق نعتا آخر.

للحنين إلى عصر النهضة أسبابه ومبرراته التي قد لا تكون بالفعل في حاجة إلى إجلاء. والسؤال الأول عندنا الآن هو: أي درس يمكن اليوم إفادته من النهضة ومن الفكر العربي في عصر النهضة؟ والسؤال الثاني: هل في الإمكان استئناف «النهضة» اليوم؟

* كاتب مغربي