قفا نبك..

TT

لا جدال في أن حالة الشلل السياسي التي يعيشها لبنان اليوم مدعاة قلق لكل اللبنانيين على مصير ما كان يوصف يوما بـ«سويسرا الشرق». كل اللبنانيين، لأن كل قياداتهم، من دون استثناء، تتحمل - بشكل مباشر أو غير مباشر - مسؤولية هذا التردي.

الضائقة الاقتصادية والطائفية والفلتان الأمني وهجرة الأدمغة والرشوة والفساد والمحسوبية.. غيض من فيض مشكلات تدمى منها عيون اللبنانيين منذ سنوات.

وإذا كان يجوز اليوم التساؤل، مع النائب ميشال عون، عما فعله رئيس الجمهورية ميشال سليمان «غير البكاء» على الأوضاع، فما لا يجوز قوله هو حصر مسؤولية الوضع بالرئيس اللبناني وحده، وحتى بعهده فقط.

أن يأخذ عون على الرئيس سليمان «البكاء» شيء، وأن يلام الرئيس سليمان على البكاء شيء آخر، فبين ما يُبكى «منه» في لبنان وما يبكى «عليه» تحول الوطن الصغير إلى «حائط مبكى» ينافس بجدارة حائط القدس الشهير.

حق البكاء تحول إلى حرية التعبير الوحيدة المطلقة في لبنان اليوم. فلماذا يريد الجنرال عون حرمان اللبنانيين منها؟ علما أنها تمارس ضمن أربعة جدران؟

كثيرة هي الشؤون والشجون المدرة للدموع. تعداد أصغرها وحده كاف لتبرير البكاء «القومي».

دولة تتمتع بكل مقومات الدول الحديثة وبناها التحتية لا تزال، بعد عقدين من انتهاء حربها الأهلية، عاجزة عن تأمين التيار الكهربائي المستدام لأبنائها.. ألا تستحق أن يذرف أبناؤها الدموع عليها، خصوصا أن عجزها يبرز في زمن تخلت فيه الدول المتقدمة عن مسؤولية إنتاج الكهرباء وتوزيعه إلى شركات خاصة تتعامل معها من موقع تجاري محض.. مما يعني أن دولة اللبنانيين أعجز من أن ترقى إلى مصاف شركة خاصة في الغرب.

واستطرادا، دولة يمتنع بعض وزرائها وشخصياتها عن تسديد ما يترتب عليهم من فواتير الكهرباء بحيث بلغ عدد الفواتير غير المسددة 5 ملايين وسبعمائة ألف فاتورة (كما ذكرت صحيفة لبنانية)، دولة يحق لأبنائها ليس البكاء عليها فحسب، بل النحيب أيضا.

دولة ينفق آباؤها وأمهاتها الغالي والرخيص على تنشئة فلذات أكبادهم وتعليمهم في أفضل الجامعات ليضطروا بعد ذلك إلى «تصديرهم» للخارج لخوفهم المزمن من انهيار الاستقرار الهش في بلدهم، فيخلون شوارع مدنهم لحملة السلاح عوض حملة الشهادات.. دولة تستحق البكاء والنحيب والعويل أيضا.

دولة ارتضت أن تكون رهينة تهديدين أمنيين، أحدهما داخلي والآخر خارجي، بسبب عجزها عن ترتيب أولويات ما تسميه باستراتيجيتها الدفاعية و«تفلسف» هذا العجز بطرح نظرية الأمن بالتراضي.. دولة يجوز ذرف دموع التماسيح عليها.

ليس في العالم دولة كلبنان تغذي الأوهام بالمزيد من الأوهام.. وليس في العالم شعب، كاللبناني، يمتطي بساط الأوهام ويدمن عليها وكأن لعبة بلاده السياسية - بالإذن من كارل ماركس - هي «أفيون الشعوب» الحقيقي. وعليه، وعلى قاعدة «بالوعد أسقيك يا كمون» لا تزال الوعود تجزى للبنانيين بدولة قادرة، والآمال تغذى بقرب قيامها.. والوضع يتردى يوما إثر يوم.

هل كتب على اللبنانيين انتظار معجزة في زمن اختفت فيه المعجزات أم انتظار جيل جديد من السياسيين المنعتقين من الذهنية الميليشيوية ومن متطلبات القاعدة المذهبية لانتخابهم، كي يعيدوا إلى اللبنانيين بعض الثقة بمؤسسة الدولة؟

أم أن لبنان الحالي، كما يقول البعض، هو أفضل الصيغ الممكنة لتعايش العشائر المذهبية على أرضه.. وإن بحذر؟

رحم الله الشاعر العربي كعب بن زهير، وإن لم يكن يقصد الساسة اللبنانيين يوم قال:

صارت مواعيد عرقوب لها مثلا

وما مواعيدها إلا الأباطيل

فليس تنجز ميعادا إذا وعدت

إلا كما يمسك الماء الغرابيل