قضايا التسوية ومشكلاتها

TT

انهمك الكتاب العرب في الأُسبوعين الأخيرين في تبيان الأسباب التي سوف تؤدي إلى فشل عمليات التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين. والأسباب المؤدية للفشل هي في نظر هؤلاء معروفة وواضحة: التعنت الإسرائيلي بعدم الإصغاء إلى الاتفاقيات السابقة بين الطرفين، وعدم الإصغاء إلى القرارات الدولية بشأن القدس والحدود واللاجئين، وتفاقم الاستيطان. ويضيف بعض المحللين إلى هذه العلل الذاتية، عللا أُخرى بيئية أو خارجية، من مثل: الضعف العربي الرسمي، وضعف إدارة أوباما، والمعارضة الثورية والشعبية للمفاوضات لدى الجمهور العربي، وضعف السلطة الفلسطينية والانقسام بالداخل الفلسطيني. وفي نظر هؤلاء، فإن هذا الفشل ستكون له آثار مفجعة: تهافت السلطة الفلسطينية أو انهيارها، وانتشار الفوضى بالداخل الفلسطيني، وربما في بعض الأقطار العربية المجاورة، والخروج الأميركي من المنطقة بشكل غير مشرف، وازدياد النفوذ الراديكالي الإسلامي والإيراني.

إن ما أُريد أن أتأمله هنا احتمالات النجاح إن كان. وفي المبدأ فإن الأُمور واضحة لهذه الناحية. إذ سيترتب عليها التسليم للفلسطينيين بـ20 % فقط من أراضي فلسطين التاريخية، وستكون الدولة الفلسطينية الجديدة شديدة الارتباط بإسرائيل، على الرغم من الأموال التي ستتدفق عليها من العرب والمجتمع الدولي. والأرجح أن يستمر الانقسام الفلسطيني ويتفاقم، إلا إذا توقفت سورية عن أن تكون حاضنة عربية للمعارضة الفلسطينية والعربية. وستظل قضية اللاجئين قوية ومتفجرة لعقود أُخرى مقبلة، حتى لو سلم لبعض الفلسطينيين بالعودة إلى فلسطين القديمة، وللبعض الآخر بالعودة إلى فلسطين الجديدة. وإذا كانت السلطة الفلسطينية غير قادرة على تحمل الفشل في المفاوضات، فهل هي قادرة - والحالة هكذا - على تحمل النجاح، ما دامت المشكلات ستستمر على هذا النحو الخطير؟! هناك من يقول: إن العين الدولية الحريصة على إنهاء النزاع، لن تكف عن العناية بالشأن الفلسطيني في عهد الاستقلال العتيد. ولذا فإن المشكلات ستجد متابعة حثيثة وعلى مدى عقد أو أكثر. وهذا صحيح. لكن إذا كان الحل في حال النجاح سيستغرق إلى حدود عام 2020، والتصدي للمشكلات القديمة والجديدة سيستمر إلى حدود عام 2030، فيمكن أن نتصور إمكان بقاء المنطقة في حالة من التأرجح والاهتزاز؛ وهذا إن أمكن استيعاب الاعتراضين الرسميين: الإيراني والسوري!

ولدينا الملف الأردني ومشكلاته. وفي الأردن من اللاجئين نحو المليونين، والذين لا تحل التعويضات المقدرة أو المفترضة مشكلاتهم حلا نهائيا. ونأتي إلى سورية، حيث تشير المسألة معها إلى بعدين خطيرين: تحرير الأرض، وتغير الموقع الاستراتيجي. ويستسهل الأوروبيون المسألة الأُولى (تحرير الجولان)، إذا تطور أو تغير الموقع الاستراتيجي لسورية؛ بمعنى أن تحرير الجولان موقوف على كف سورية عن أن تكون دولة ممانعة. وهذا الأمر يستتبع نقاشا وعملا على الأَولويات، فما هو الذي يسبق الآخر، وبأي ضمانات، وما وظيفة المبادرة العربية للسلام في هذه الحالة؟ وهذا يستدعي قراءة تطورات العلاقة بين إيران والولايات المتحدة وتأثيراتها على الوضع في الشرق الأوسط، وليس مع سورية فقط. إذ الواضح الآن أن إيران هي المعارض الرئيسي للتفاوض وبالتالي للتسوية. وقد جاهرت الرئاسة الإيرانية بذلك، كما جاهر بذلك الأمين العام لحزب الله في لبنان. قال الأمين العام أولا، إنه سيقف في وجه التسوية الظالمة، ثم تجاوز ذلك للقول إنه ينبغي تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. والولايات المتحدة (والمجتمع الدولي) تريد من إيران أمرين، وليس أمرا واحدا: الامتناع عن إنتاج السلاح النووي، والامتناع عن تهديد أمن إسرائيل. فإلى ماذا سيؤول الأمر في العلاقات المتوترة بين الدولتين؟ هناك من يقول: إن هناك تفاهمات بين الطرفين في العراق، وربما في أفغانستان. ربما تحدث مفاوضات مباشرة في الأسابيع أو الشهور المقبلة على سائر المواضيع هذه المرة، وليس على موضوع النووي فقط. إنما هذه الأمور لا تزال احتمالات، بدليل أن التفاهم في العراق إن كان قد حصل فإنه لم يؤد إلى تشكيل حكومة عراقية جديدة حتى الآن. والمشكلة أن سورية لن تستطيع الحركة بحرية إن ظل التوتر بين الولايات المتحدة وإيران مستمرا، وستظل ممزقة بين دعم المقاومة، والتزام الوصول إلى تسوية لتحرير أرضها. والأمر الأول واقع، بينما الأمر الثاني نظري حتى الآن.

ويتحدث كثيرون هذه الأيام عن إمكان دخول لبنان إلى جانب سورية في المفاوضات المباشرة خلال الشهور المقبلة. ولبنان لا يبدو معنيا في هذه المرحلة من التفاوض، لأن «مزارع شبعا» الشهيرة لا تزال معتبرة جزءا من مشكلة الجولان. إنما إذا كان ذلك يشكل ربطا لموقف لبنان بموقف سورية؛ فإن انفصالا بين الساحتين كان قد حصل من جهتين: جهة استقلال حزب الله بالساحة اللبنانية، وجهة وجود مشكلة لاجئين كبيرة في لبنان ليست موجودة في سورية. ولموقف حزب الله علاقة لا تنفصم بالنزاع الأميركي - الإيراني، ولا ينبغي الاستخفاف بقدرة الحزب على احتضان المقاومات العربية حتى لو تغير الموقف السوري بالتدريج. ولذا فإن لبنان مهدد باضطراب شديد في حالتي نجاح التفاوض أو فشله. فإذا نجح التفاوض قبل التوافق الأميركي – الإيراني، فإن حزب الله يستطيع أن يشدد قبضته على الداخل اللبناني بغض النظر عن شن الحرب على إسرائيل أو عدم شنها. ويقول اللبنانيون إنهم لا يستطيعون قبول لاجئ فلسطيني واحد. لكن كما سبق القول؛ فإن الإرغامات السورية والإيرانية عبر الحزب تتقدم على ذاك الاعتبار.

لقد أحدث المشروع الإسرائيلي بحدوده المعترف بها دوليا، مشكلات هائلة بالمنطقة. وما يجري الآن من تفاوض بعد تبلور مشروع إقامة دولة فلسطينية، يعني أمرين اثنين: الاعتراف العربي بمشروعية الكيان في حدود عام 1967، وحل المشكلات المترتبة على قيام الكيان نفسه. وما حدث منذ عام 1973 من حروب ومفاوضات ومعاهدات لا يزال يدور حول المسألة الأولى، وقيام الكيان وتأمينه. أما المسائل الأُخرى فقد قيل فيها الكثير، لكن ما وضعت تلك الأفكار والأقوال في مجال التفاوض الجدي، والذي لا يتعلق بإسرائيل وحدها؛ بل وبرعاتها الدوليين. وإذا كان موقع سورية معرضا بسبب التجاذب على المسألة الأُولى؛ فإن المسألة الثانية (الآثار المترتبة على قيام الكيان)، تهدِد الأمن والاستقرار في الأردن ولبنان، كما تثير الحيرة في كيفية إعادة استيعاب غزة من جديد ضمن الكيان الفلسطيني المنشود. وقد لا يستجيب الدوليون لكل مطالب إسرائيل في الأمن، لكنهم سيستجيبون في الغالب لمطلب يهودية الدولة الإسرائيلية، وهذا يولد مشكلة خطيرة لا تعني اللاجئين الذين يريدون العودة وحسب؛ بل تعني أيضا مليونا ونصف المليون من الفلسطينيين الموجودين الآن في فلسطين القديمة.

وهكذا فإن الحديث عن الفشل في المفاوضات يعود بنا إلى المربع الأول. لكن الحديث عن النجاح، يستدعي تقييما لما يعنيه هذا النجاح. ولذا فقد كان هناك من قال: إن النجاح والفشل في المفاوضات سيان، للمشكلات الكثيرة الناجمة في الحالين!