ما هو الصح.. وما هو الغلط؟!

TT

من أغرب النماذج التي صادفتها في حياتي امرأة في منتصف العمر، جريئة ومندفعة ومثقفة ومتخرجة في أرقى الجامعات بأميركا، ويفترض والحال كذلك أن تكون تقدمية في فكرها، ومعاصرة في أسلوب حياتها، لكنها كانت على النقيض تماما من ذلك.

تواجهت معها في إحدى المناسبات الاجتماعية، وكان زوجها الصامت المؤدب برفقتها، وتطرق الحديث إلى التربية المثالية للأبناء، وكيف تكون.

طبعا الأغلبية الكاسحة من الحضور سواء كانوا رجالا أو نساء يؤمنون بأصول التربية الحديثة، المرتكزة على نظريات علم النفس المتعارف عليها.

وتصدت لهم جميعا تلك المرأة باتجاهها المعاكس والمختلف، الذي تهاجم فيه بطريقة استفزازية كل قناعاتهم، في الوقت الذي لزمت فيه أنا حدي، ولم أشترك إطلاقا في تلك المناقشات الساخنة، بل ظللت طوال الوقت مراقبا ومستمعا.

كان صوتها أولا مرتفعا ليست فيه أي نبرة من نبرات الأنوثة، غير مجاملة على الإطلاق، لديها من الحجج الغريبة الشيء الكثير.

فهي تؤكد مثلا أنها لا تتورع أبدا عن ضرب أبنائها إذا أخطأوا، ولديها مجموعة من عصي (الخيزرانات) لهذا السبب.

وتقول: «يجب أن يعاقب الأطفال عقابا لائقا، فالتربيت على الرأس والنصيحة، وكلمة يا حبيبي يا حياتي لا تنفع، وليس لها مكان في قاموس حياتي، وإذا كنتم غير مصدقين فاسألوا زوجي هذا وهو جالس أمامكم (كالكبة النية)».. ولم تنتظر حتى يسألوا زوجها، لأنها هي التي سألته: «كلامي صحيح ولاّ لا يا (أبا فلان)؟».. وهز المسكين رأسه قائلا: «صحيح».

واستمرت في انطلاقتها قائلة: «إنني ضد كل معطيات هذا العصر من الناحية التربوية، لهذا أدفع بأبنائي منذ صغرهم إلى الشارع، وأسعد كثيرا إذا أتاني يوما أحدهم وثيابه ممزقة والدماء على وجهه من جراء خناقة مع أقرانه، إنني أشجعهم دائما على أن يأخذوا حقوقهم بأيديهم وينتزعوها انتزاعا.. لا أحثهم على الاستحمام كثيرا، ويعجبني الشعر المنكوش غير المسرح، والأيدي الخشنة، والأظافر المتسخة.

بل إن أحد أبنائي حينما تخرج في الثانوية، وفى الإجازة الصيفية فرضت عليه أن يلتحق بإحدى الشركات سائقا لإحدى (التركات) الثقيلة التي تجوب الطرق الطويلة، والآخر ألحقته بصياد سمك يغيب معه في عرض البحر لعدة أيام من دون (لايف جاكيت)، أو حتى تليفون محمول، أما ابنتي الوحيدة فقد جعلتها في مرحلة ما بائعة للملابس المستعملة في سوق الحراج.

لقد عركتهم الحياة وعرفوا عالمها السفلي، والكلمات السوقية تجري على ألسنتهم مثلما تجري الكلمات المنمقة على ألسنتكم الرقيقة التي ينقط منها العسل».

كانت تتكلم بهذه الصراحة الفجة، وأنا شاخص ببصري نحوها بانشداه، ولسان حالي يتساءل: هل هي سكرانة؟.. هل هي مجنونة؟!.. وعندما لاحظت هي ذلك توقفت عن الكلام والتفتت نحوي تسألني: «لماذا أنت تنظر لي هكذا كالمفجوع؟! أكيد ماهو عاجبك شكل أنفي المعقوف، ولا أثر هذا الجرح القديم الغائر في جبهتي، إنني لا أؤمن بعمليات التجميل مثل هؤلاء المحروسات»، قالت ذلك وهى تشير بيدها نحو النساء الجالسات.

هذه الحادثة حصلت قبل عشر سنوات تقريبا، وقبل أيام عرفت بالصدفة أن أحد أبنائها (سائق التركة) يتقلد حاليا منصبا حكوميا رفيعا، وأن (صبي الحوّات) أصبح رجل أعمال ناجحا يطلب الكثير من الناس ودّه، أما (البائعة المتجولة) فقد أصبحت طبيبة متخصصة بالغدد الصماء.

الحقيقة أنني بعد هذا لا أدري ما هو الصح وما هو الغلط!

[email protected]