شمعة تسامح لتبديد ظلام العقول

TT

تناولت يوم 28 أغسطس (آب) الخلاف حول بناء مسجد نيويورك. واقترحت حلولا وسطية باحتضان المركز للديانات الإبراهيمية الثلاث ومحاضرات لدراسات أوجه التقارب بينها، مع نصب تذكاري لضحايا 11 سبتمبر (أيلول) على يد عصابة لصوص سرقت رايات الإسلام. (معظم التعليقات جاءت إيجابية؛ وأقلية تثير الشفقة بسبب رؤية أصحابها للإنسانية والعالم بمنظار معتم يضع «الثأر» قبل مصلحة مسلمي نيويورك، لتقحم بحرب العراق وبخلاف الفلسطينيين مع الإسرائيليين – رغم دعم رجال الدين اليهود لبناء المسجد - وتجاوز الخلط الجغرافيا إلى التاريخ ليقحم الهنود الحمر في الأمر).

سعد عبد الله الماضي من الرياض اقترح كتابة أسماء ضحايا إرهاب 11 سبتمبر والترحم على أرواحهم على جدار المسجد، ما يثلج الصدور، ليس فقط لاجتهاد مسلمين بمقترحات تظهر الوجه الأحسن للإسلام، بل أيضا لذكاء قلوبهم التي اتسعت لاحتضان آلام غير المسلمين.

ولا أعلم إذا كان فيصل عبد الرؤوف، إمام مسجد نيويورك والمسؤول عن المشروع قرأ المقالة في «الشرق الأوسط»، أو مقالات أخرى بالإنجليزية - وتعليقات تلفزيونية وإذاعية اقترحت فيها توحد أبناء الديانات الإبراهيمية ضد إرهاب المتطرفين، أو أن الأمر مصادفة، فالحمد لله على اهتدائه للفكرة.

تحية للإمام عبد الرؤوف على مقالته («نيويورك تايمز» - 8/9/2010)، («الشرق الأوسط» - 9/9/2010)، بتضمن المركز الثقافي الذي سيتكلف مائة مليون دولار، «مكانا لعبادة المؤمنين بالديانات الثلاث من يهود ومسيحيين ومسلمين»، ونصبا تذكاريا لضحايا إرهاب 11 سبتمبر.

مقالة الإمام عبد الرؤوف ستنشرها مئات الصحف، الأميركية والعالمية، المشتركة في خدمة syndication لـ«نيويورك تايمز»، وتتناقلها وكالات الإعلام، وسيكون تأثيرها كإشعال سلسلة من الشموع الواحدة تلو الأخرى ليغمر الضياء العالم.

توقيت المقالة لا يقدر بثمن، لتزامنها مع تصرف أخرق من مخبول يفترض أنه رجل دين، لكن يبدو أنه مضطرب نفسيا لدرجة تستحق عرضه على اختصاصي نفسي بدلا من الاكتفاء بإدانته على لسان زعماء العالم وجميع رجال الدين الأميركيين (تقريبا) من مختلف الأديان، وحتى البيان الرسمي للفاتيكان، الكنيسة العالمية للكاثوليك ومرجعهم الأعلى، أدان القس تيري جونز.

الأب جونز، راع لكنيسة بروتستانتية في بلد صغير في فلوريدا لم يسمع به أحد خارج الولاية. رعية الكنيسة المسماة «كنيسة يمامة التواصل العالمي» عددهم أقل من 50 شخصا (للمقارنة «كنيسة المسيح» في الحي الذي أقطنه «همبستد» - حيث غالبية الجيران من العلمانيين والكاثوليك من شرق أوروبا، وعدد كبير من اليهود - هي واحدة من أربع كنائس إنجيلية في ربع ميل مربع، ويشكو راعيها الأب بول كونراد من قلة الحضور رغم أن صلاة الأحد يحضرها ثلاثة أضعاف رعية الأميركي جونز في ولاية أكبر جغرافيا من إنجلترا).

ورجال الدين دائما ما يدعون رعيتهم من المصلين إلى التسامح ونبذ العنف، وحب الجيران، والكرم تجاه الغرباء، والأهم باتباع تعاليم المسيح بإدارة الخد الأيسر عند تلقي اللطمة على الخد الأيمن. ولهذا تلقى الراعي جونز الإدانة حتى من الغالبية الساحقة من رجال الدين المسيحيين الأميركيين (وطبعا من اليهود والمسلمين والهندوس والسيخ وغيرهم)، لأنه أعلن إحياءه لذكرى 11 سبتمبر مناسبة «لليوم العالمي لحرق المصاحف» متهما القرآن (وأشك في أن الرجل قرأه) بالدعوة للعنف ضد الآخرين.

الصحف التقت عددا من رعايا كنيسته السابقين. هجروها لأن الرجل استغلهم في العمل في مصنع أثاث يملكه «كتطوع لدعم الكنيسة وخدمة المسيح»؛ وهدد من يخرج عن طاعته، بمعاداة الرب والمسيح وسيكون مصيره جهنم. ولعل هذا يفسر انخفاض عدد منتظمي الحضور لكنيسته في منطقة يفترض أنها أكثر مناطق أميركا تدينا. فلا فارق بينه وبين الملا محمد عمر والمشعوذين باستغلال الدين لمصالح دنيوية. فجونز يحمل مسدسا «للحماية» (أمر المسيح أصحابه بخفض السيوف عندما هبوا لحمايته من الجنود الذين دلهم يهوذا على مكانه ليلة اعتقاله).

دعوة جونز «ليوم عالمي لحرق المصاحف» لم تجد استجابة سوى من الصحافيين الذين تدفقوا على مقره بأعداد تفوق رعيته - ولي تحفظ على تسرع الزملاء والزميلات. ورغم ادعاءاته بتلقي التأييدات فإن الصحافة لم تعثر إلا على من هجروا كنيسته، باستثناء شقيقين عاطلين عن العمل يحملان بندقية ومسدسا للاشتراك في مناسبة الحرق التي وصفها الرئيس باراك أوباما «بالاشمئزاز»، وتعمدت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إدانة دعوة جونز أثناء مأدبة تناول إفطار رمضان في مركز إسلامي. وتلقى القس (المفكر بعقلية طالبان)، الإدانة من الزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل إلى رئاسة المفوضية الأوروبية إلى سكرتير عام الأمم المتحدة بان كي مون إلى مبعوثه للشرق الأوسط، توني بلير.

ويحيرني وقوع الصحافيين في فخ نصبه أحمق كجونز؛ فالرجل كان سيظل نكرة لولا خطؤنا كصحافيين بتزويده بالميكروفونات والكاميرات فحقق الشهرة التي كان يسعى لها. الـ«بي بي سي» وقعت في فخ مشابه العام الماضي، عندما أعلن إسلامي متطرف هنا، يقتصر حزبه على شقيقيه وابن عمهما، عزمه تنظيم مظاهرة جنائزية من 50 نعشا يحملها «المسلمون» في قرية ووتين باسيت، التي يقف سكانها احتراما لمرور جثامين الجنود البريطانيين من أفغانستان؛ استفزازا لأهالي الجنود. واتفقنا ككتاب صحف على نشر الخبر فقط إذا (وأكرر إذا) نجح المخبول في تنظيم المظاهرة لا قبلها، لقناعتنا بعدم قدرته على جمع خمسة متظاهرين (أكبر مظاهرة نظمها ضد مسيرة الجنود - حضرها 14 شخصا فقط في بلدة بيدفورد التي يقطنها 60 ألف عائلة مسلمة)، بينما حمل 50 نعشا يحتاج لـ200 متظاهر على الأقل. للأسف حققت الـ«بي بي سي» الشهرة للمخبول بمقابلة سبع دقائق في أهم برنامج إخباري صباحي (توداي) فصاح مستفزا المستمعين؛ ولم ينظم المظاهرة طبعا مفضلا العودة إلى المقهى الدائم لأنه عاطل عن العمل.

فمثل هذا الباكستاني المخبول والدجالين كالظواهري، وبن لادن، يتحملون المسؤولية، قبل المشعوذ جونز، بارتكابهم أعمال الإرهاب الوحشية باسم الإسلام مستشهدين بآيات قرآنية خارج سياقها التاريخي واللغوي مثل حكاية «لا تقربوا الصلاة..»؛ مما نزع القدسية اللاهوتية عن القرآن لمن لم يقرأه، وأعطى الانطباع لأنصاف المتعلمين (وهم الأغلبية) غير المسلمين بأن المصحف كتاب سياسي يحمل نظرية آيديولوجية تبرر العنف. ولذا فنصيحتي لصناع الرأي العام خاصة بين المسلمين، بتجاهل جونز، وحماقاته الاستفزازية، لأن مهاجمة السفارات وحرق العلم الأميركي ستمنح القس المخبول مزيدا من الشهرة ليجادل بمنطق المشعوذين بأنه كان على حق بإلصاقه الاتهامات الكاذبة بالمسلمين «وفلسفتهم» السياسية.

وبدلا من لعن ظلام عقل جونز، فلنوقد شمعة للإنسانية.