مواجهة عدم الاستقرار في الخليج

TT

التغيرات الكثيفة الحاصلة في الخليج لا تتطلب التردد في الجهر بالرأي، للنظر بجدية إلى المستقبل. ترك الأمور كما هي قد يفاقم المخاطر. ظروف نشأة مجلس التعاون عند اختلاف الغريمين الإقليمين، في بداية الثمانينات من القرن الماضي (العراق وإيران) وحربهما الضروس الطويلة - التي أفرزت هذا التجمع الإقليمي - قد اختلفت الآن بشكل جذري. المطلوب أن يُعمل الفكر في خطوات أكثر تقاربا مما تم حتى الساعة درءا للخطر المحدق. ردة فعل دول الخليج على تلك الحرب في بداية الثمانينات، كان ظهور مجلس التعاون في مايو 1981.

اختلف الوضع اليوم جذريا. فالسيناريو المنتظر في العراق هو في حده الأكثر تفاؤلا، حكومة مسيرة أو تتظلل بظل كثيف من طهران، أو - لا سمح الله - حرب أهلية. كلا الاحتمالين يشكل مخاطر جمة على دول الخليج. إيران لا يحتاج وضعها إلى الكثير من الشرح، فهي اليوم تشعل الحرائق وتشتكي في الوقت نفسه من الدخان، وتعمد إلى دفع الأمور مع المجتمع الدولي حتى حافة الهاوية، ولا تترك فرصة - تحت القيادة السياسية الحالية - إلا انتهزتها للاستمرار في نزق المعاند عن طريق تحريك ما يمكن تحريكه من جماعات وقوى في الساحة العربية، لإشعار الآخر بقدرتها على إنعاش عوامل الاضطراب في المنطقة، ومنازلة الغرب فيما تعتقد أنه نقطة ضعفه، وهي تدفق الطاقة إلى الأسواق العالمية. هناك الكثير من الشواهد على تلك السياسة شاخصة يوميا أمام المتابع، كلها تقود إلى وجود شهية مفتوحة للسيطرة على الإقليم.

أما في الطرف الآخر فإن الوضع في جنوب الجزيرة (اليمن) غير مريح، فحرائق شمال وجنوب اليمن، ذات الثقل السكاني الكبير، سوف تؤثر سلبا على الاستقرار في المنطقة إن جرى تفتيت ذلك البلد، بملايينه الثلاثين، وسيفتح بوابة من الشرور يصعب قفلها، وقد تتفجر من جهة أخرى مسيرة السلام في فلسطين وتخلّف كارثة إنسانية وسياسية غير مسبوقة يتأثر بها الخليج، إذا أضفنا إلى ذلك عوامل داخلية، أهمها تأثير الكساد العالمي على الاقتصاد في دول الخليج، والذي لم يتخذ حيالها سياسات مشتركة عملية بعد، مع تفاقم نسب البطالة بين المواطنين، وزيادة تدفقات الهجرة وتضخم العمالة الأجنبية، وما تفرزه كل هذه العوامل من ضغوط على الجبهة الداخلية قد توهنها.

ذلك يدفعنا إلى القول إن مجلس التعاون، بعد 30 عاما من إنشائه و30 اجتماع قمة وأكثر من 115 اجتماعا للمجلس الوزاري، يحتاج إلى وقفة مراجعة وحضور ابتكارات سياسية في آلياته، تبعد عنه المخاطر، وتكسبه مناعة داخلية متكئة على سياسات واضحة وطويلة الأجل، تقلل من الاحتقان الداخلي، وترفع سقف الأمل وترتكز على توازن جديد.

فبعد سنة سيكون مجلس التعاون قد أنهى عقده الثالث، وهو زمن قضاه في الغالب في التعامل مع الطارئ والشكلي، وليس التعامل مع الأهم أو التخطيط للتطوير وحساب كلفة المخاطر. والأهم هو حفظ الاستقرار لوحداته الممثلة فيه، وهي تتعرض اليوم، خاصة الصغيرة منها، إلى احتمال اضطراب كبير، إن بدأ فلن يوفر الآخرين، مهما اعتقدوا أنهم في مأمن.

ظروف النشأة عند خصام الغريمين أفرز مجلسا للتعاون، إلا أنه اليوم وفي احتمال أكثر قربا إلى المنطق لتوافق الغريمين سياسيا على الأقل، يحتاج مجلس التعاون إلى تطوير نفسه من الداخل. في السابق كان الاعتماد أيضا على القوى الدولية، التي تبين الآن أنها تعاني من ضعف وتآكل داخلي، سببه اقتصادي في المقام الأول، ولكن أيضا ضمور وتراجع قدرة المعدة (الديمقراطية الغربية) على خوض حروب الغير، حتى لو توفرت القدرة فإن الرغبة تتضاءل، وتجعل من الاعتماد على تلك القوى نظريا أكثر مما هو واقعي. فالتقنية الأميركية مكنت الولايات المتحدة من احتلال العراق وأفغانستان، إلا أنها أيضا لم تستطع أن تتخلص من النتائج السلبية، التي وفرت قاعدة مضادة للحروب في بلادها، وهي تتسع وتكبر.

السعي للكونفدرالية:

أمام هذا المشهد المثقل بالمخاطر، وعودة إلى ورقة العمل الخليجي الأولى التي قالت ما نصه «إذا كانت التحديات تكفي لإيجاد تعاون فعال في أية منطقة من العالم، فإن ظروف منطقة الخليج مواتية أكثر... نظرا لموقعنا الجغرافي وثروتنا النفطية التي تكون عرضة للأطماع السياسية الدولية إلى درجة تقترب من الابتزاز، الذي يدفعنا جميعا إلى الانحياز للتعاون المشترك» هذا النص في عام 1981 نلحظ فيه الابتزاز الخارجي، إلا أننا في العام 2010، نشاهد بأم أعيننا الجهود التي تسعى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي الداخلي الذي تظهر نذره في بعض مناطق الخليج اللينة.

أمام كل هذه التغيرات، لا بد لمجلس التعاون أن يفكر في تطوير آلياته باتجاه الكونفدرالية الخليجية، وهي في معناها العام مجموعة من الدول المستقلة تفوض بموجب اتفاق سياسي مسبق بعض الصلاحيات لهيئات مشتركة لتنسيق سياستها دون أن يشكل هذا التجمع دولة. التفكير بهذا المعنى أو قريب منه ينقل مجلس التعاون إلى مرحلة جديدة عمودها الفقري الاعتماد على الذات وتكوين جبهة تعاضد داخلية، تتيح له تعزيز المناعة وفتح قنوات ندية للتعاون الخلاق مع الآخر للوقوف أمام التحديات القادمة، وهي تحديات لها علاقة بالهوية والوجود.

شجاعة المؤسسين في ذلك اليوم التاريخي في أبوظبي في 25 مايو (أيار) 1981، والذين انتقل كثير منهم إلى رحمة الله، تدفعنا لمطالبة القابضين على السلطة اليوم بالسير على خطاهم في نفس الطريق وبابتكار مطور. لم تعد الدول الصغيرة أو المتوسطة تستطيع أن تسبح في عالم السياسة الدولية المعقد كلٌ بمفرده وكلٌ على هواه أو ابتغاء مصالح آنية ضيقة.

ما هو مهدد في الخليج اليوم ليس الحدود ولكن الوجود.