وأسدل ستارة غرفته و«نااااام»!

TT

حينما انطلقت مدافع العيد، تعلن قدومه، منح أبو سعيد رأسه تأشيرة خروج من نافذة غرفته بدار المسنين، كانت خطى المارة في الشوارع تصفع الدروب، وعبارة «من العايدين» تموسق المدى، فاستعاد من الذاكرة كيف كان في مثل هذه الأيام جزءا من فرح المدينة، ينصب «مراجيحه» في ميادينها، فيلتف حوله الأطفال بثيابهم الملونة كبيارق العيد، وتتعالى أصوات الجميع بالغناء:

* «يا عم.. هات العيدية

* يا عم.. فضة مجلية

* يا عم.. هات العيدية

* يا عم.. زوّدها شوية».

* استعاد صورته من بين ثنايا الذاكرة يوم كان في مثل هذا اليوم يرتدي ثوبه الجديد، وحذاءه المقصّب، تعلو رأسه عمامته الملونة، وكيف كان يطرق أبواب البيوت، يهنئ أصحابها بالعيد، فيستقبلونه بعطر الليمون، وحلوى اللوزية.

استعاد إلى الذاكرة يوم كان يعود إلى داره ليلة العيد محملا بالعطور والبخور وهدايا المحبين، فتستقبله أم سعيد بابتسامة لها طعم العيد، تذكر كيف رحلت ذات عيد، وكيف طار ابنهما سعيد من العش بعد ذلك، وتركاه وحيدا وجها لوجه أمام العيد، فخدر أحزانه، ومضى في الدروب، يبحث عمن يشاركه التمرد على الأحزان.

ثلاثة أعوام منذ أن ضمت جسده المنهك هذه الغرفة الكالحة، ثلاثة أعوام لم ير خلالها سوى وجوه الأطباء والممرضات وخدم المستشفى، و«ألبوم» عتيق، يضم صورا لأحبابه، يشتاق إليهم، فيتوقف عند وجوههم واحدا بعد الآخر، ويدفن عتبه في دواخله، هذه صورة له - بالأبيض والأسود - مع ابنه سعيد حينما كان طفلا، وقد حمله بجوار القلب، وكأنه يدخره للزمن قبل أن يتوه سعيد في زحمة الأيام!

يندلق نحو غرفة الكشف في حاشية من توابع الطبيب، تصفعه رائحة الخوف و«البنج» وسوداوية المعاطف البيضاء، الممرضة ترتدي الأبيض، عامل النظافة يرتدي الأصفر، أما هو فكان يرتدي سواده، فجأة استعاد سخريته وهو يحمّل مصانع النسيج مسؤولية تقاسم الأدوار في هذه الغرفة الباردة. وراح يغني:

«جس الطبيب لي نبضي

فقلت له إن التألم في كبدي فاترك يدي».

وحينما عاد إلى نافذة غرفته، شاهد الناس يتقاطرون في اتجاه مصلى العيد، رفع كفه ملوحا لبعض من عرفهم، لكن عيون الناس لا تتجه صوب نوافذ الشيخوخة، فأسدل ستارة الغرفة ونااااااااام.

[email protected]