تنقلوا من دون دماء

TT

ليس هناك من يعرف عدد الكتب التي صدرت عن حروب لبنان وأزماته وأنفاقه السياسية. والسبب ليس لبنان في حد ذاته بل «الساحة اللبنانية» التي هي ساحة كل الأمم وكل العرب وإيران وإسرائيل. وخلال مرحلة طويلة كانت هي أيضا الساحة الفلسطينية بكل شعابها الإقليمية والدولية وخصوصا العربية. وقد تعددت مصادر الكتب وأنواعها وفئاتها. منها الدعائي، ومنها التضليلي، ومنها الموضعي، ومنها الجيد، ومنها السطحي، ومنها المضاد لما سبق ونشر.

وقد قرأت بعض هذه الكتب وتصفحت بعضها وأعرضت عن تلك الكتب «التي تقرأ من عنوانها» أو من أسماء واضعيها. كنت بعيدا عن الحرب. وكنت، والحمد لله، بعيدا عن المحاربين. لذلك عندما أقرأ الكتب أفاجأ أحيانا، وأستغرب أحيانا. وما عرفته من قراءة الطبعة الثانية لـ«من ميشال عفلق إلى ميشال عون» للمحامي فايز قزي، يتعدى، بالنسبة إلي، المفاجأة والذهول والاستغراب! يروي قزي، الذي كان محاميا لمنظمة التحرير ومقربا من ياسر عرفات، أنه عندما اشتد النزاع بين «القوات اللبنانية» وقائد الجيش آنذاك، ميشال عون، حاول أبو عمار، بكل قواه، التوسط لمنع اندلاع الحرب بينهما. وكان يحمل الرسائل إلى قزي. كان ذلك نحو عام 1989. لكن من عام 1975 إلى عام 1982، كان أبو عمار يخوض حرب «العزل» ضد عون والقوات. وكان عون والقوات يخوضان حرب التصفية ضد المخيمات والوجود الفلسطيني المسلح. ثم؟ ثم هذا ما حدث، أعداء الأمس حلفاء الغد. ومن يؤيد ميشال عون تأييدا مطلقا؟ الدول «الثورية» العربية: العراق وليبيا والجزائر. ومعها منظمة التحرير. ومن كان يلعب الدور الأساسي في الحرب على القوى المسيحية؟ الدول الثورية: الجزائر وليبيا والعراق. وطبعا منظمة التحرير.

كان هناك سبب واضح طبعا هو الصراع السوري - العراقي، وصراع دمشق مع عرفات و«الحركة الوطنية». لكن في كل ذلك لم يخيل إلي أن الوسيط الأول بين القوات اللبنانية والجنرال عون سوف يكون ياسر عرفات! بعد هذا أصبح حجم المفاجآت السياسية في لبنان عاديا: انتقال عون، بعد 11 عاما من المنفى، إلى التحالف مع سورية، وانتقال وليد جنبلاط من غرة 14 آذار إلى غرة 8 آذار. وقبل ذلك انتقال «أمل» من التحالف مع الفلسطينيين إلى درب المخيمات، وانتقال الخلاف المسلح بين «أمل» وحزب الله إلى حلف مسلح هو أيضا. لماذا كل هذه التحولات؟ هذا ليس سؤالا مهما. فلبنان بلد من دون قرار داخلي، والجماعات التي يتألف منها تدين بالولاء للخارج، إما علنا أو بقليل من حفظ ماء الجبين. أو ما بقي من أثر لها. السؤال الأهم: لماذا لا تتم كل هذه التحولات من دون كل هذه الدماء، ومن دون كل هؤلاء اليتامى والأرامل والجوع والتشرد والتهجير والفظاعات والسرقات؟ لماذا لا تتنقلون بسلام، حيثما شئتم وكيفما شئتم، وتتركون أهلكم يعيشون؟