كيف وصل العباقرة إلى سوق الخردة؟!

TT

قادتني قدماي قبل فترة إلى سوق الخردة، دونما سبب محدد، كان ثمة رجل يحمل مذياعا عتيقا، ينادي على بضاعته:

«قديمك نديمك ولو الجديد أغناك».

يغرق المذياع في الصمت، فيوجه الرجل لكمة خطافية بيمناه إلى وجه المذياع، ينطلق بعدها صوت محمد عبد المطلب واهنا «بياع الهوى راح فين»، وما هي إلا برهة حتى يتلاشى الصوت في ضجيج المكان، وتداخل الأصوات، فيتأهب الرجل لتوجيه لكمة خطافية جديدة.

في ركن السوق متجر بواجهتين، تكدست على رفوفه آلاف الكتب، التي تجاور فيها جبران خليل جبران مع نيتشه، والعقاد، ونهرو، والمنفلوطي، وإيليا أبو ماضي، ومحمد حسن عواد، وزكي نجيب محمود، وغيرهم. الأسعار محددة، وصاحب المتجر يساوي بين الجميع، فكل شيء هنا بعشرة.

زبون يرتدي نظارة «كعب الفنجان» ينهمك وسط غبار الكتب، يمسح أغلفتها بطرف «شماغه»، يقرأ صفحة من هنا، وسطورا من هناك، وكأنه قد عثر لتوه على الكنز، وحينما مررت بجواره وجدته يتمتم متعجبا: «من ساق كل هؤلاء المشاهير إلى سوق الخردة؟!»، حرضتني عبارته على سؤال صاحب المتجر - الذي لا يبدو أن ثمة علاقة بينه وبين ما يبيع - عن مصادر كتبه، فقال في لامبالاة:

- «غالبا ما نحصل عليها من المثقفين المفلسين والأدباء المعدمين، الذين يضطرون إلى بيع غذاء عقولهم لتلبية نداء بطونهم».

فتدخل الرجل صاحب النظارة «كعب الفنجان» غاضبا:

- «لا.. لا تقل هذا.. يجوع الأديب الحقيقي ولا يأكل ببيع كتبه».

ولم يعره صاحب المتجر اهتماما، فابتلع الرجل ما تبقى من غضبه، وعاد ينفض الغبار من جديد عن وجوه نهرو، وتولستوي، وجان بول سارتر، وغرقت أنا في تداعيات أحوال الأديب، منذ أن أطلق العرب عليه عبارتهم الشهيرة «أدركته حرفة الأدب»، أي أنه وقع في مصيدة الفقر والحرمان وشظف العيش، وكيف وصف الأديب وليم ماكس ثاكري الأدب بأنه ليس تجارة ولا مهنة، ولكنه الحظ الأنكد، وقال: «يا صديقي امسح الأحذية، أو نظف السكاكين، أو افعل أي شيء غير الاشتغال بالأدب»، وتخيلت كيف كان الأديب «أميل زولا» يشتد عليه الجوع، فيقيم الفخاخ على سطح غرفته ليتصيد العصافير، ويشويها على لهب شمعة!

لا شيء يفسر توالي كتائب العشاق على ساحة الأدب - على الرغم من مخاطرها - سوى أن القوة الإبداعية قد منحت هؤلاء حصانتها السحرية فارتضوا المخاطرة.

[email protected]