تحدث مثلما يتحدث الرجال

TT

هو رجل شبه فيلسوف، لا أستطيع أن أقرعه، بحكم أنني من قوم (أبو نعيلة). والنعيلة لمن لا يعرفها هي تصغير أو تدليع (للنعال)، أكركم الله.

هذا مدخل لا بد منه لكي أضعكم بالصورة.

أتيته وكان مستويا على أريكته مثلما كان يستوي (بوذا)، فبادرني بالكلام قائلا: «مع الأسف إن الأصوات تتشابه علينا، ونحن لا نحسنها ولا نميزها ولا نوليها أهمية، مع أن بعضها يكون وبالا علينا في بعض الأحيان».

فسارعت بالرد عليه قائلا: «صحيح، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير». فامتعض من ردي قائلا: «الصحيح هو أنك خفيف وعجول، أنا في إيه وأنت في إيه؟ ما دخل الحمير في كلامي هذا يا (بجم)؟! أليس لك عقل لكي تربط لجامه؟!».

اعتذرت له بحكم محدودية استيعابي، ووعدته أن ألزم الصمت إلى أن ينتهي من كلامه. فقال: «هناك يا سيد مشعل علاقة حساسة بين الصوت والعاطفة، ولكي تجيد استعمال صوتك يتحتم عليك أن تعرف كيف تجيد إظهار عواطفك، هل فهمت؟!».

هززت له رأسي بصمت، علامة أنني فهمت، فاسترسل قائلا: «جرب أن تستعمل كلمات المحبّة والمعزّة لطفلك أو لكلبك، ولكن وجّهها إليه بصوت مرتفع غاضب، عندها سوف يجفل منك أو يبكي، وبالمقابل وجّه إليه السباب والألفاظ البذيئة بنغمات حلوة أليفة وأنت تبتسم، لا شك أنه سوف يتلاعب أمامك ويضحك.

إن أول ما ينبغي أن نعمله هو أن نحسن أصواتنا. هل تعلم أن كل إنسان يعرف ويتذكر أصوات الآخرين ما عدا صوته هو؟! وأكثر الناس لو سمعوا أصواتهم وهي مسجلة سوف يصدمون بها عندما يسمعونها، فنصيحتي لك هي أن تحاول أن تتعرف جيدا على نبرات صوتك وتشذبها، وتجعل التغيير العاطفي يتسلل من خلالها».

تأثرت بنصيحة (بوذا)، وأول ما ذهبت إلى منزلي أغلقت على نفسي باب غرفتي، وأتيت بآلة التسجيل، وجلست أمامها متنحنحا لكي أسلك حبالي الصوتية، ثم أخذت أتكلم بما قدرني الله عليه من كلام. ابتدأت أولا بكيل سيل من الشتائم لمن لا أطيقهم، ثم توقفت برهة وأعقبتها بتقليد بعض المذيعين لنشرات الأخبار، وعندما كاد ينقطع نفسي وتغتم حالي، توجهت إلى بعض الطرائف والنكات التي طالما ألقيتها على مسامع جلاّسي، وبعد أن طفح بي الكيل أخذت أردد كلمات الغزل المشبوبة وكأن ليلى العامرية تمرغ وجهها على صدري، إلى درجة أن الشوق والعياذ بالله قد هزني ففتحت جعيرتي على الآخر ورحت أغني، ويا ليتني اكتفيت بذلك، بل إنني قلبتها بالآخر إلى (يا ليل يا عين) ورحت أصدح بالمواويل. أين منها مواويل عبد المطلب؟ وبعد أن أنهكت تماما توقفت وأقفلت المسجل، وانطرحت لعدة دقائق، ثم استويت جالسا وشمرت عن أكمامي، وأعدت التسجيل من البداية، عندها صعقت مما سمعته، وأخذت أسائل نفسي: معقول؟! هل هذا هو صوتي؟! يا لطيف الطف، يا للفشيلة ويا للفضيحة، كيف لم أفطن لذلك؟! فين أودي وجهي بعد ذلك لمن أقابلهم؟!

وعقدت العزم بعد أن تعلمت ذلك الدرس أن أكون حنونا وعطوفا في كلامي أمام الآخرين إلى أبعد الدرجات.

وفعلا في أول مناسبة بعد ذلك أخذت أتحدث إلى من بجانبي بأسلوب مختلف، ظنا مني أنني أحسن الكلام وأن نبرات صوتي سوف تكون ولا شك معبّرة ومؤثرة.

وفوجئت برد فعله عندما قال لي: «عيب عليك، ما هذه (الرخاوة) التي تتحدث بها؟! ارفع صوتك يا أخي وتحدث مثلما يتحدث الرجال».

[email protected]