بنيامين باربر و11 سبتمبر

TT

كثيرا ما نتحدث، نحن المثقفين العرب، عن صموئيل هانتنغتون صاحب «صدام الحضارات»، أو فرانسيس فوكوياما صاحب «نهاية التاريخ»، أو حتى برنارد لويس صاحب الكتب الشهيرة والمترجمة إلى لغتنا. ولكننا نادرا ما نتحدث عن منظّر أميركي آخر لا يقل شهرة، هو بنيامين باربر، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة ماريلاند وصديق بيل كلينتون، ومستشاره الشخصي سابقا. بمعنى آخر فإنه ينتمي إلى التيار الليبرالي الديمقراطي في أميركا، وهو التيار المضاد لبوش والمحافظين الجدد والمقرب من أوباما حاليا.

فهذا الرجل كان قد نشر كتابا مهما قبل اندلاع الحدث الأكبر الذي أدى إلى تدشين القرن الحادي والعشرين بخمس سنوات، قصدت 11 سبتمبر (أيلول) بالطبع، وهذا يعني أنه استبق الحدث وتنبأ به، ولم ينتظر حتى يحصل لكي يعلق عليه ويثرثر.. وهو الحدث الذي أدى إلى اندلاع الحرب الساخنة بين عالم الإسلام وعالم الغرب، التي لا نزال نعيش تفاعلاتها وآثارها حتى هذه اللحظة. نرجو ألا نعيشها حتى يرث الله الأرض ومن عليها! فإذا كانت الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشيوعي قد استمرت خمسين سنة تقريبا، فلا أحد يعرف متى ستنتهي هذه الحرب الجديدة التي وضعتنا نحن، العرب والمسلمين، في خط المواجهة الأول غصبا عنا. ولكن إذا كان هانتنغتون وفوكوياما وبرنارد لويس وغيرهم من مفكري اليمين الأميركي والغربي يضعون الحق كله على العرب والمسلمين في اندلاع هذه المواجهة، فإن بنيامين باربر يضع الحق على الطرفين. وبالتالي فهو أكثر إنصافا بكثير. في الواقع إن كتابه استبق الحدث الأعظم مثل هانتنغتون، وربما أكثر، وبشكل أفضل. عنوانه هو: «الجهاد الإسلامي ضد العولمة التاجرة الاستهلاكية.. العولمة والتزمت الأصولي ضد الديمقراطية». المقصود بالديمقراطية هنا الشفافية والحرية وضغط الرأي العام على الحكام لكي يصححوا مسارهم، والتناوب السلمي على السلطة عن طريق الانتخابات الحرة. وبالتالي فالديمقراطية ليست مجرد كلمة تلقى على عواهنها، وتستهلك من كثرة ما تستخدم بمناسبة ومن دون مناسبة، وإنما هي حصيلة المسار الطويل العريض للحضارة. إنها لب الحداثة وجوهرها. ولكن باربر يعترف بأن الديمقراطية عملية صعبة جدا، وليست هدية تنزل علينا من السماء. وبالتالي فالعالم العربي أو الإسلامي لا يستطيع أن يحققها بين عشية وضحاها، ومطالبته بذلك تعجيز. هذه صيرورة طويلة ومعقدة. فلنعطه الوقت الكافي إذن بدلا من أن نتأستذ عليه ونفرض الإملاءات والشروط.

ما معنى هذا العنوان الطويل العريض؟ معناه أن الإنسان الغربي أصبح كل همه أو كل فلسفته في الحياة تكمن في الاستملاك بأكبر قدر ممكن، والاستهلاك بأكبر قدر ممكن. أنا أستهلك وأستمتع بالماديات والشهوات فأنا موجود. ولا توجد أي قيمة أخرى في الحياة. قل لي ما هو رصيدك في البنك، أقل لك من أنت وماذا تساوي. نقطة على السطر! إنه يستهلك حتى درجة التخمة وليس فقط الشبع، وهذا ما ينطبق على المواطن الأميركي بالدرجة الأولى. إنه يستهلك حتى لا يعود لكلمة الاستهلاك معنى. مقابل ذلك فإن العالم الإسلامي بسبب الفقر والحرمان يقوم برد فعل معاكس: أي يغرق في استهلاك الدين والتدين حتى يعمى قلبه تماما، معتقدا أنه امتلك الآخرة. وكل ذلك للتعويض عن هذا الفقر والحرمان بالذات. فإذا كنت لا تستطيع أن تربح الدنيا بكل متعها ومباهجها المادية الاستهلاكية، فعلى الأقل تربح الآخرة وجنات النعيم والحور العين.. إذا كنتُ لا أستطيع أن أبني قصورا، هنا والآن، على هذه الأرض، فلماذا لا أبنيها في الجنة حيث النعيم المقيم؟ قد يصدمنا هذا التفسير ويفاجئنا ويزعج إيماننا، ولكن ربما لم يكن كله خطأ. ربما كان له نصيب من الصحة. صحيح أن ظاهرة الأصولية لن تنتهي إذا ما شبع كل المسلمين وزال الحرمان والفقر المدقع. فهناك عوامل أخرى لا مادية، أي فكرية وسلفية قروسطية، تغذي التزمت الأصولي وتدفع إليه. ولكن كاذب ومجرم من يقول إن المسلم متعصب لأنه مسلم فقط، والعربي همجي لأنه عربي فقط. ومخطئ من يقول إنه إذا ما شبع العرب وتحسنت أحوالهم المعيشية فإن ظاهرة الأصولية لن تتراجع إلى النصف. أضف إلى ذلك حل مشكلة فلسطين بالطبع. هذه الأشياء يمر عليها برنارد لويس وهانتنغتون وسواهما مرور الكرام ويقولون إن المسلمين حاقدون على الحضارة، لأن دينهم متعصب بجوهره. وبالتالي فالسياسة الغربية أو العولمة الغربية الجائرة التي تشبع نصف العالم وتجوّع نصفه الآخر ليست مسؤولة بأي شكل عن حصول ضربة 11 سبتمبر! الغرب بريء كل البراءة. لا مشكلة فلسطين ولا مشكلة الاستعمار القديم والجديد ولا كل الإهانات التاريخية مسؤولة عن 11 سبتمبر. وحده التعصب الإسلامي الكامن أزليا في أعماق كل عربي أو مسلم هو المسؤول.

بنيامين باربر يقول لك إن كليهما مسؤول. عولمة الغرب أو سياسته الجائرة التي تكيل بمكيالين مسؤولة بشكل غير مباشر، بل حتى مباشر، عن ضربة 11 سبتمبر. ولكن جمود العالم الإسلامي وسيطرة التأويل الأصولي للدين عليه، وامتلاء برامج التعليم بتكفير الآخرين والحقد عليهم، ثم بالأخص فشل التنوير العربي مسؤول أيضا. من يستطيع أن يقول أفضل من ذلك؟ إنه تحليل منصف للظاهرة: تحليل يضع الحق على الطرفين، وليس على طرف واحد كما يفعل مثقفو اليمين الغربي الأميركي الأوروبي. لقد آن الأوان لكي يتحمل كل طرف مسؤوليته إذا ما أردنا فعلا أن نستخلص الدروس والعبر من 11 سبتمبر، وكل الفواجع العراقية والأفغانية التي تلته. وإلا فإنه سيكون قد ذهب مجانا، وسالت دماء ضحاياه وضحايا العرب والمسلمين جراءه سدى.

إنها لكارثة أن تحصل كل هذه الأحداث الجسام دون أن يستخلص أحد منها شيئا على مستوى الفكر النظري أو تغيير السلوك العملي. ما الذي يمنع الغرب من حل مشكلة فلسطين فورا؟ ما الذي يمنعه من أنسنة عولمته الجائرة، الجشعة، التي لا تشبع؟ ما الذي يمنعه من إدخال بعض القيم اللامادية أو الروحانية على فلسفته المادية التي تختزل الإنسان إلى مجرد حيوان استهلاكي محض؟ وما الذي يمنع العرب والمسلمين من الانخراط في أكبر عملية تجديد للبرامج والمناهج والعقليات التراثية؟