هل ينجح أبو مازن في تثبيت حدود دولة إسرائيل؟

TT

أخيرا بدأت مرحلة جديدة من مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية أميركية، في 2 سبتمبر (أيلول) الحالي. وبعد تردد فلسطيني ومراوغة إسرائيلية، بدأت الحلقة النهائية من المفاوضات بهدف الاتفاق على إقامة دولة فلسطينية وضمان أمن إسرائيل. وبينما يتطلب قيام الدولة الفلسطينية ترسيم حدود لها، فقد تغيرت حدود إسرائيل بشكل مستمر منذ قيامها سنة 1948.

كانت الدولة العثمانية تسيطر على أرض فلسطين لأربعة قرون، وبعد انهيارها أثناء الحرب العالمية الأولى قررت عصبة الأمم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني. وفي الوقت نفسه تمكن حاييم وايزمان - رئيس المنظمة الصهيونية - من الحصول على وعد من آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا عام 1917، بالمساعدة على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وبعد ثلاثين عاما من صدور الوعد البريطاني، استطاعت الحركة الصهيونية الحصول على تأييد كبير في دعوتها لإقامة وطن قومي لليهود، بعد ما لاقوه من تعذيب وإبادة على يد هتلر أثناء الحرب العالمية الثانية.

وفي 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم أرض فلسطين عند انتهاء الوصاية البريطانية، إلى دولتين؛ عربية ويهودية مع تدويل منطقة القدس. ونص قرار الجمعية العامة على تخصيص ما يقارب 55% من الأرض لليهود، الذين اشتملت حصتهم على شريط ساحلي شمال قطاع غزة يمتد من أسدود إلى ما قبل حيفا، إلى جانب صحراء النقب في الجنوب. وحصل العرب على نحو 45% من الأرض، اشتملت على الجليل الغربي ولواء نابلس والسهل الساحلي الممتد ما بين قرية أسدود شمالا حتى الحدود المصرية جنوبا، وكذلك لواء الخليل وجبل القدس وغور الأردن الجنوبي. أما مدينة القدس فقد نص القرار على إقامة نظام دولي خاص بها، حيث تتولي الأمم المتحدة الإشراف على المدينة المقدسة.

وفي حين رفض العرب قرار التقسيم بالإجماع، سارعت الوكالة اليهودية بالموافقة على الرغم من اعتراض البعض عليه - من أمثال مناحم بيغن وإسحق شامير - ممن كانوا يسعون للحصول على كامل أرض فلسطين. وقبل يوم واحد من نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين، أعلن بن غوريون ميلاد دولة إسرائيل في 14 مايو (أيار) 1948. لم تمض ساعات قليلة على هذا الإعلان، حتى قامت قوات سبع دول عربية بدخول فلسطين بهدف حماية الفلسطينيين ومنع قيام دولة إسرائيل. وعلى الرغم من النصر السريع الذي حققته الجيوش العربية في البداية، فإن الموقف تغير بعد ذلك لصالح إسرائيل. وبعد حرب استمرت ما يقرب من العام، وافق العرب والإسرائيليون على توقيع اتفاق الهدنة سنة 1949. اعتبرت إسرائيل خطوط الهدنة التي توقف عندها القتال تمثل حدودها الجديدة، مما أعطاها أكثر من 18% زيادة على ما حصلت عليه في قرار التقسيم. كما سيطرت على الجزء الغربي لمدينة القدس وفصلت قطاع غزة - الذي خضع للإدارة المصرية - عن الضفة الغربية التي خضعت هي والقدس الشرقية للإدارة الأردنية. وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تتمكن من استثمار الهجوم الثلاثي الذي شنته على مصر بمشاركة فرنسا وبريطانيا سنة 1956 في توسيع حدودها، نظرا لإصرار الولايات المتحدة على الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، فقد سنحت لها فرصة تاريخية في حرب يونيو (حزيران) 1967. فبعد ستة أيام من القتال تمكنت إسرائيل من السيطرة على مجمل الأرض الفلسطينية، إلى جانب شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية. عندئذ صار القادة الإسرائيليون يشعرون بقرب تحقيق حلم الحركة الصهيونية في ما يسمونه «إسرائيل الكبرى»، التي تمتد حدودها من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في أعالي سورية.

لكن المفاجأة التي لم يتوقعها قادة إسرائيل جاءت في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973، عندما تمكن الجيش المصري من عبور قناة السويس إلى شبه جزيرة سيناء، وتحطيم خط بارليف الدفاعي الإسرائيلي. وبعد الهجوم العسكري، قام الرئيس السادات بهجوم سياسي كانت له نتائج مهمة في وضع حد للحلم الصهيوني. فقد فاجأ السادات العالم كله بزيارته لمدينة القدس في 19 نوفمبر 1977، وخاطب الكنيست الإسرائيلي عارضا الاعتراف بدولة إسرائيل. وتمكن الرئيس المصري بعد ذلك بعامين من الوصول إلى اتفاق سلام مع مناحم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي، استرجعت مصر بمقتضاه كامل أراضيها المحتلة عام 1967. كانت هذه نقطة تحول مهم في السياسة الإسرائيلية؛ فلم يعد هدفها الآن توسيع حدودها إلى دول الجوار، وإن ظلت تصر على السيطرة على مجمل الأرض الفلسطينية.

ثم جاءت المفاجأة الثانية في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1987، عندما بدأت انتفاضة الشعب الفلسطيني العفوية ضد قوات الاحتلال، وكانت القيادة الفلسطينية لا تزال في مقرها بتونس وحماس القتالية لم تتكون بعد. عندئذ أدركت السلطات الإسرائيلية عدم جدوى استمرار احتلال أراضي الفلسطينيين، فقررت البحث عن حل سياسي يؤدي إلى السلام. وتمت دعوة القيادة الفلسطينية إلى مؤتمر مدريد للتفاوض حول منح الشعب الفلسطيني حكما ذاتيا. وبعد إعلان اتفاق المبادئ في أوسلو واعتراف منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود عام 1993، سمحت إسرائيل للقيادة الفلسطينية بدخول فلسطين وتكوين السلطة الفلسطينية. كما انسحبت قوات الاحتلال من المدن الفلسطينية - عدا القدس الشرقية والخليل - ووضعت بعض الأراضي تحت السيطرة الأمنية والمدنية للفلسطينيين.

وعلى الرغم من اغتيال إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي في 4 نوفمبر 1995، عندما وافق على حل الدولتين، فإن قادة إسرائيل سرعان ما أدركوا عدم قدرتهم على رفض إقامة دولة فلسطينية، خاصة بعد إصرار الولايات المتحدة والدول الأوروبية على هذا المطلب. كما جاءت موافقة الدول العربية على تحقيق السلام العربي الإسرائيلي الشامل بعد قيام الدولة الفلسطينية، مشجعة على إمكانية التوصل إلى اتفاق ينهي صراعا دام ما يقرب من المائة عام. والآن بعد استئناف المفاوضات بين الطرفين، هل ينجح أبو مازن في إقامة الدولة الفلسطينية وترسيم حدود ثابتة للدولة العبرية؟