لبنان.. تنظيم انهيار أم صفقة مؤقتة جديدة؟

TT

«يصعب عليك تصديق أن شخصا ما يقول الحقيقة.. عندما تدرك أنك كنت ستكذب لو كنت مكانه»

(إتش إل مينكن)

قد لا يتوافر إجماع إزاء موضوع «الأحجام السياسية» في لبنان، حيث يسهل القول أن الكل «كومبارس» في مسرحية إقليمية كبرى، لكن ما لا شك فيه أن ثمة تفاوتا في الأحجام... وكذلك في الأدوار.

صحيح الكل تقريبا رهينة لحسابات إقليمية أكبر منهم، وصحيح أيضا أن الضغوط الخارجية تحدّد اليوم - ربما أكثر من أي وقت مضى - سقف الخطاب السياسي في ثاني أضعف حلقة بمنطقة الشرق الأوسط، لكن المنطق يقول بوجود قوى وشخصيات تتراوح أوزانها بين «الواجهات» و«الأدوات» و«الشركاء الصغار». وبالتالي، لا يجوز، منطقيا، الحكم على موقف ما يتبناه حزب الله، بثقله السياسي والعسكري وعمق بيئته الديموغرافية الكبيرة، بالجدية ذاتها التي يحكم فيها على موقف أو بيان صادر عن شخص أو تيار بالكاد يمثل نفسه.

لنناقش الموضوع بصورة أكثر تركيزا.

لبنان، الكيان الذي عجز حتى اللحظة ولأسباب كثيرة عن أن يتحول إلى بلد، يعتبر من أكثر كيانات المنطقة هشاشة. هذا، مع أن أيا منها ليس «مضرب مثل» في الحصانة والمنعة. وبالتالي، فالأمر الطبيعي أن تتسم حياته السياسية بتوازنات دقيقة تحكمها اعتبارات داخلية بقدر تأثرها بموازين القوى الإقليمية والدولية. وهذا، في غياب برامج سياسية مطلبية تتجاوز خطوط الفصل الفئوية، يعني أن ساسته هم على الدوام أسرى لأحجام طوائفهم وهواجسها وأحلامها وأوهامها. ويعني، أيضا، أنهم وطوائفهم محكومون بالتوازنات والصفقات الأوسع نطاقا.

بعض ساسة لبنان لديهم من الذكاء، ونسبة لا بأس بها من التحوط، ما يدفعهم إلى تبديل المواقف عندما «يشمّون» رائحة صفقة ما، أو يلحظون بوادر تبدّل في موازين القوى.. درءا لخطأ في القراءة قد يُخرجهم ويطيح بقواعدهم الفئوية خارج الحلبة. لكن ليس كل موقف متبدل ناجم بالضرورة عن قراءة عاقلة للأوضاع المستجدة، وخاصة، إذا كان «بطل» التبديل قد تحول من رقم صعب في المعادلة إلى مجرد واجهة تافهة يسهل استغلالها والمتاجرة بطموحاتها الغبية، والمراهنة على تعصبها المتأصل وجموحها الأحمق. اليوم، بينما يعمد لاعبون كثر على الساحة المحلية اللبنانية إلى «تهدئة اللعبة» في مرحلة خطرة من فترة حكم الإدارة الأميركية الحالية، والمشروع النووي الإيراني، والهرب الإسرائيلي القديم - الجديد إلى الأمام من استحقاقات السلام مع محاور فلسطيني في أمسّ الحاجة لأن يحقق اختراقا ينقذ رهانه على السلام... ثمة من يحاول علنا هز التفاهم الداخلي... المهزوز أصلا.

هذا الطرف لا يزال يظن أن التستر على فضائح بمستوى تهم التجسس لإسرائيل يبرر له تصعيد لهجة التهم ذات الطابع الطائفي الفاقع ضد أجهزة أمنية رسمية، ويراهن على أن يؤتي التصعيد ثماره... لمجرد أن الحكم اللبناني «التوافقي» مضطر للسكوت ومواصلة إزالة الألغام السياسية والأمنية.

غير أن المراقب الحصيف يفهم أن الطرف المصعّد يأمل ما هو أخطر وأسوأ.

إنه يريد مقايضة تهمة التجسس لإسرائيل بقضايا أخرى مثل المحكمة الدولية التي تنظر قضية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه. وهنا ينبغي التذكر أن التصعيد المناقض لكل اتجاهات التهدئة، ولا سيما على صعيد التوتر الشيعي - السني، يأتي في أعقاب ما حصل مؤخرا في منطقة برج أبي حيدر البيروتية، والموقف المتقدم جدا الذي اتخذه رئيس الحكومة سعد الحريري في موضوع «الاتهام السياسي» في جريمة اغتيال أبيه.

الكرة الآن في ملعب حزب الله. فهل يسير قدما في المقايضة، فيتغاضى عن تهم التجسس للعدو... الذي طالما اعتبره أكبر المحرمات، أم يجرب مجددا إنقاذ هالته الإقليمية كـ«قوة المواجهة الأولى» ضد إسرائيل؟

حتى الآن أثبت «الحزب» أنه كقوة مقاتلة أكثر فاعلية وقدرة على كسب التعاطف والتأييد منه كحركة سياسية سيئة التصرف والمناورة. ولن يكون في مقدور «الحزب» مواصلة السكوت عن ارتفاع لهجات التهديد والمشاغبة من جهات محسوبة عليه وتتحرك تحت جناحه وحمايته، وفي الوقت نفسه طمأنة الآخرين إلى أن محاولاتهم إعادة بناء الثقة معه وبه.. محاولات هو مستعد لأن يلاقيها بأحسن منها.

أمام «الحزب» – و«الحزب» وحده – أن يقرر ما إذا كان لبنان سيمضي في اتجاه الانهيار المنظم أو نحو عقد صفقة جديدة من أجل البقاء.