مستقبل أفريقيا في ظل تسليع الوحدة في السودان

TT

نشأت أفريقيا الجديدة في فترة ما بعد الاستعمار على مبدأ عزيز جسّده في صدر التزاماته ميثاقُ منظمة الوحدة الأفريقية المنشأة في عام 1963، وهو المبدأ القائل باحترام وحدة أراضي الدول الأفريقية وحدودها الجغرافية، حتى وإن كانت تلك الحدود قد رسمت وحددت بناء على تقديرات ومنافع السلطات الاستعمارية. إن مؤسسي منظمة الوحدة الأفريقية عندما شددوا على الوحدة الأفريقية الجامعة في ميثاقهم، كانوا يدركون أنها لا تتم ولا تستقر دون الحفاظ بالضرورة على الوحدة القطرية وما يعنيه ذلك من التماسك الداخلي للدول التي نشأت في أعقاب الحقبة الاستعمارية. وعلى الرغم من لامنطقية الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية، ساد شعور، بلغ حد اليقين، بأن انفتاح المطالبات الانفصالية التي تثير «تابو» الحدود سيفجر منابع للشر لم تعهدها أفريقيا من قبل. لهذه الأسباب عظم الآباء المؤسسون لأفريقيا الجديدة الوحدة وجعلوا منها مثالا سماويا غير قابل لاستدراكات أهل الأرض، ومن بينها المطالبات الانفصالية التي غالبا ما تأسست على منافع مادية ضئيلة العائد حازتها النخب دون جمهور السكان.

والحق يقال فإن الأفارقة، بجانب تمسكهم النظري بالوحدة، قد أثبتوا التزامهم العملي بها، خاصة إذا ما قارنا حالهم بما جرى لأوروبا وآسيا، وتحديدا ما جرى لدول مثل يوغسلافيا والاتحاد السوفياتي، وتشيكوسلوفاكيا، وإندونيسيا. لكن هذا الصمود أمام النزعات الانفصالية أصبح عرضة للتصدع الآن. فعلى الرغم من التماسك الظاهري الذي يحب الأفارقة أن يجسدوه من خلال التوجه نحو ترقية منظمتهم إلى اتحاد أفريقي، فإن سحر الوحدة وإلهامها الذي كانت تبعثه في النفوس قد باخ. ومما يزيد الأمر سوءا بالنسبة للأفارقة هو أن أي تداعٍ للوحدة الأفريقية الجامعة أو الوحدات القطرية سيغري القوى الاستعمارية، التي ما زالت يقظة وحية ونهمة، للتدافع نحو أفريقيا من شرق العالم وغربه، كما تدافعت نحوها من قبل في نهايات القرن التاسع عشر. في هذا السياق تكتسب مسألة وحدة السودان أهمية خاصة. فانفصال الجنوب سيؤسس سابقة تسفّه كل النوايا الطيبة والأهداف الخيرة التي تطلع إليها الآباء المؤسسون للوحدة الأفريقية.

عند تشريح الأزمة القائمة اليوم في السودان والمؤشرات القوية بأن النخبة المسيطرة في جنوب السودان تدعم خيار الانفصال، نجد أن جرثومة الداء تعود إلى تباين عميق في الرؤى والمفاهيم لحظة توقيع اتفاقية السلام الشامل. فعندما اتفق طرفا الاتفاقية، في فقرة «المبادئ المتفق عليها»، على «تخطيط وتنفيذ اتفاقية السلام بغية جعل وحدة السودان خيارا جاذبا»، كان الموقف الحقيقي من الوحدة موجها بذهنيتين متناقضتين: الأولى تنظر إلى الوحدة بسريالية الستينات من القرن الماضي، والثانية تنظر إليها بعقلية البيع بالتقسيط.

وقد أثبتت الأحداث أن «الوحدة الجاذبة»، على الرغم من النوايا الحسنة لحظة توقيع الاتفاقية، لا تملك، عند بعض السياسيين على الأقل، من مقومات القداسة شيئا، فهي قد تنزلت من مقام التجريد إلى مقام الأسباب، كما يقول ابن عطاء الله. بعبارة أخرى، أنها دخلت الأسواق - شر البقاع إلى الله - فأصبحت تقاس بإنشاءات فنية، وتحويلات دولارية، وقوائم تسوق لا تنتهي. وكان الظن أن الوحدة تقاس بقيمتها الذاتية لا بعائداتها المادية، فالعائدات المادية، شأن المال والعرض الزائل، تزيد وتنقص وتأتي وتذهب. هكذا، منذ ذلك اليوم الذي استضمر فيه أحد الطرفين ما استضمر، تنزلت الوحدة إلى أديم الأرض وأصبحت عرضا مسلّعا بعد أن بقيت دهرا في طبقات السماء منارة تهدي السائرين.

التسليع (Commoditization)، أي اتخاذ شيء ما سلعة وتحديد قيمة مادية له، مفهوم نشأ من مفهوم آخر شارك في نقده أكثر ما شارك الفلاسفة الماركسيون وهو مفهوم التشيؤ (Reification). والتشيؤ باختصار غير مخل هو أن نصنع من شيء ليس بمحسوس ولا متجسد، شيئا محسوسا ومتجسدا وعرضة للقياس. وهذا قريب مما يسميه الكلاميون التجسيم، أي تفسير بعض صفات المولى سبحانه وتعالى بما يجعل له جسما معلوما وهيئة متجسدة كأجسام الأشياء المعلومة عندنا في الدنيا. وخطورة التجسيم في العقيدة هي أنه عندما يقبل البعض بتجسيد ما لا يتجسد بالكيفيات التي نعرفها من خبرتنا الدنيوية، كالإله، فإنهم ينزعون إلى اتخاذ أصنام آلهة لهم، يعبدونها تارة إذا طمعوا في نفعها ويحطمونها تارة أخرى إذا غضبوا عليها.

والتسليع هو درجة أدنى من تشيؤ العقيدة الموصوف أعلاه، لأن التسليع يربط المثال بمقابل مادي يفي بحاجات اللحظة فقط ويغفل عن حاجات المستقبل. ربما كان التشيؤ جائزا ومفيدا عندما نرمي لأسباب خاصة وظرفية إلى تحويل الشيء الذاتي إلى شيء موضوعي لتيسير الحكم في شأنه، لكن كيف نتصور الحال إذا شيّأنا، ومن ثم سلّعنا، الحب، أو الوطنية، أو الصداقة، أو المروءة، أو النجدة، أو الرحمة.

إن أفريقيا قارة شديدة التنوع على الرغم من الصورة النمطية الأحادية لها، التي ركزها الإعلام والتراث السياسي الغربي بوجه خاص. أفريقيا ليست وطنا لعرق واحد كما يتبادر إلى الأذهان. والأفارقة لا يتوحدون على دين أو ثقافة أو لغة. أفريقيا فيها طيف عريض من الثقافات والأعراق تمتد من الأجناس القوقازية الأوروبية في جنوبها إلى الأجناس السامية في شمالها وشرقها، وبين هؤلاء جميعا تتكدس مجموعات عرقية وثقافية شديدة التنوع من بانتو إلى نيليين إلى حاميين. بعبارة أخرى، فإن خطوط الصدع في المجتمعات الأفريقية التي قصدت إلى إخفائها النوايا الصالحة للآباء المؤسسين للوحدة الأفريقية هي أعمق من أن يقضي عليها أي ماكياج سياسي مؤقت. ينبغي أن نتذكر ذلك، ونحن بين يدي حرب ضروس حول الموارد تمثل أفريقيا أهم مسارحها. فالصراع على ثروات الكونغو الديمقراطية ومواردها حالة شاهدة، ومعضلة الموارد المائية التي تعد أخطر المهددات الأمنية للسودان ومصر معلومة.

إثيوبيا المجاورة للسودان فيها أكثر من عشرين قومية كلها قد كفل لها الدستور الإثيوبي حق تقرير المصير، وجنوب أفريقيا بها 11 لغة رسمية، وكينيا انقسم مجتمعها عرقيا بعد الانتخابات الأخيرة بين اللو والكيكيو وهي تناضل اليوم من أجل دستور جديد يوحدها، ونيجيريا مرشحة لانقسام بين شمال وجنوب، ولا تكاد تخلو دولة من خطوط تقسيم طبيعية، حتى دويلات صغيرة مثل رواندا وبوروندي تنقسم عرقيا إلى هوتو وتوتسي. وجنوب السودان الذي يقيم الانفصاليون دعواهم على أساس وحدته الثقافية والعرقية هو أبعد ما يكون عن تلك الوحدة، بل هو بداخله ليس أقل تنوعا من الشمال، ولعله هو نفسه يكون أول ضحايا المد الانفصالي إذا تركنا مصير الوحدة في أيدي من لا يؤمنون بها، أو لا يعلمون أنهم لن يجدوا جبلا يعصمهم من الماء إذا فار التنور.

* مستشار الرئيس السوداني والمسؤول الحكومي لملف دارفور