حتى نمنعهم من شتمنا

TT

فيصل عبد الرءوف، عراب مركز قرطبة الإسلامي، بمسجده المثير للجدل في موقع تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك يعتقد أن المضي في بناء المسجد والمركز هو الأصح والواجب حتى بعد ردود الفعل الحادة من قبل شرائح أميركية وأوروبية واسعة، أبرز أشكالها تشنجا ما كان يزمع القس تيري جونز فعله من حماقة إحراق نسخ من القرآن.

عبد الرءوف يعتقد، كما في مقابلته مع تلفزيون «إيه بي سي نيوز» أن التوقف عن بناء المسجد والمركز في «غراوند زيرو» سيرسل «رسالة خاطئة» إلى بقية مسلمي العالم، وهي أن الإسلام يتعرض لهجوم في أميركا، وعليه فإن ذلك: «سيقوي المتطرفين في العالم الإسلامي ويسهم في تجنيدهم».

هو محق، أخونا عبد الرءوف، في هذا التوجس، وقد رأينا تصاعد مشاعر الخوف و«الإسلاموفوبيا» في أميركا والعالم الغربي بعد الإصرار على بناء المسجد على حافة الجرح الأميركي الساخن جراء سكاكين الإرهاب الأصولي المنتمي للإسلام، ولكنه غير مصيب في تقدير خطر هذه الحساسيات.

نعم أميركا ليست في حالة حرب مع الإسلام بل مع جماعة محدودة متطرفة من المسلمين وهي «القاعدة»، كما قال الرئيس الأميركي أوباما، لكن هذا كلام «عقلاء» ونخب، ليس بالضرورة أن يكون هو الشعور الساخن والحي لدى الجماهير، خصوصا جماهير أمثال القس تيري جونز وغيره من الغربيين الذين لا يعرفون عن الإسلام وتاريخ المسلمين أبسط المعلومات.

الحال أن هناك حالة انفصام في المجتمع الأميركي، أو نحن في الطريق إلى هذه الحالة، كما قالت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، وأن ما جرى الآن في ذكرى 11 سبتمبر من تراشق وتواجه حاد بين ممثلي الديانة الإسلامية والمسيحية في أميركا، يطرح سؤالا عميقا عن واقع الخوف من الإسلام لدى قطاعات أميركية واسعة، كما طرحت وكالة الأنباء الفرنسية في تقريرها.

نحو عقد من السنين مر على تلك الهجمات الرهيبة التي دشنت القرن الجديد، ووضعت الأسئلة الكبرى بين الحضارتين الغربية والإسلامية وجها لوجه، وكدنا أن نصل إلى لحظة «صدام الحضارات» كما توقعها المفكر الأميركي هنتنغتون.

لم تفلح جهود دعاة الاعتدال والحوار، حتى أوباما الذي جاء على حصان التسامح وتحسين صورة أميركا وتنظيف تركة سلفه بوش في العالم وألقى تحية السلام على المسلمين في القاهرة، بلسان عربي مبين، فقد عادت الحرب الإعلامية جذعة وطرحت الأسئلة الحادة على الطاولة.

السؤال: هل كان يمكن تجنب هذه المنازلة الدينية الساخنة، ومناقشة إمكانية عيش المسلمين في الغرب أو كيفية وصل ما فصل من جسور الحوار والتفاهم بين الغرب والمسلمين، أم أنه كان لا مناص من الوصول لهذه اللحظة وتلامس الأنوف حتى يتم الحوار والاشتباك المباشر وتصفية الحسابات التاريخية والنفوس المتوترة؟

لا يمكن لمئات الخطب وأطنان الكتب وعشرات المؤتمرات أن تلغي الهواجس الحقيقية بين المسلمين والغرب.

هناك شك متبادل وعميق بين الذاكرة الإسلامية والذاكرة الغربية المسيحية، حتى بعد تحول الغرب إلى التعلمن والفكر المدني، صحيح أن الأصوات المتطرفة تخبو في لحظات الازدهار والتعاون، ولكنها سرعان ما تظهر وتملأ المشهد ضجيجا عند أي لحظة احتكاك أو اختلاف أو تأزم في الحوار.

«زمن» 11 سبتمبر أعاد زخم هذه المشاعر الحبيسة، وكل يرمي التهمة على الآخر، هناك بحث حارق عن الاعتدال والهدوء هنا وهناك، وأصبحت مسألة الإصلاح والاعتدال الإسلامي مسألة عالمية لا تخص المسلمين فقط، بمعنى أن زعماء الغرب ومؤسساته معنيون تماما بوجود إصلاح إسلامي ومناصرة الخطاب المعتدل، الذي هو موجود أصلا قبل أن يهتم به الغرب، حتى لا يحاضر البعض علينا بشكل سطحي عن «طروء» الاعتدال الإسلامي الآن!

هذه قضية لن تحل في يوم وليلة، هذا كفاح فلسفي وإصلاح سياسي وهندسة اجتماعية ستأخذ من المسلمين وقتا، ربما لن يكون بمدة الوقت الذي أخذه الإصلاح والتطور في الغرب، ولكن من المؤكد أنه وقت لا يقاس بعقد أو عقدين من السنين، وهو، قبل ذلك، حاجة إسلامية داخلية قبل أن يكون رغبة غربية خارجية، فالتجديد والإصلاح مفهومان من صميم الثقافة والخطاب الإسلامي.

في زحمة هذه المشاعر والصدامات والبحث المضني عن نقطة توازن وهدوء، تخرج أصوات قد «تتاجر» بالاعتدال أو تخوف بالتطرف، وقد تكون غير متاجرة بالمعنى المادي الفج، ولكنها حتما أصوات ليست مدركة لتعقيد وصعوبة الانتقال الحضاري.

أخونا فيصل عبد الرءوف، قد يكون صاحب نية حسنة، ونحن سنفترض ذلك لأنه هو الأصل في إحسان الظن، لكن أجزم أنه لم يكن موفقا في اجتهاده وتصرفه، فقد وتر الأمور وجعل بناء مركز إسلامي قضية هوية لا تنازل عنها، في حين أنه مجرد بناء مسجد في مكان مثير للجدل، كان بمقدور فيصل أن يبنيه في مكان آخر، وفي نفس المدينة، إذا كانت هناك حاجة له من قبل بعض المسلمين، حتى المفكر الإسلامي الشهير طارق رمضان تحدث في مقالة له بجريدة «واشنطن بوست» عن أن قرار عبد الرءوف كان «غير حكيم» بسبب توقيته ومكانه.

بكل حال، فإن ما يجري الآن فتح على قصة كبرى هي قصة أزمة الفهم لهويتنا، وأزمة فهم الآخر لنا. وهو أيضا، أعني فهم كثير من الغربيين لنا، فهم مشوب بالسذاجة والسطحية، والأحكام المسبقة أحيانا، مضافا إليها جروح الذاكرة التاريخية.

تلك قصة كبرى تحتاج إلى نقاش أوسع و«أصعب».

أود قبل الختام أن أذكر «الشيخ» فيصل، ونفسي والجميع، بتنبيه قرآني حكيم يجب تذكره الآن لمناسبة اللحظة؛ حيث جاء في الآية رقم 108 من سورة الأنعام (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

قال المفسر الشهير الإمام القرطبي في كتابه «الجامع لأحكام القرآن»: «وفي ذلك دلالة على أن المحق يلزمه الكف عن سب السفهاء الذين يسرعون إلى سبه مقابلة له، لأنه بمنزلة البعث على المعصية والمفسدة فيها».

لاحظ كلام هذا المفسر العمدة، فهو يتحدث عن أن «المحق» يلزمه الكف أحيانا عن حقه إذا غلب على ظنه حصول مفسدة أكبر من فعل حقه.

نحن نقول إن القضية ليست في بناء المسجد بحد ذاته، بل فيما حصل من المفاسد واللغط من وراء ذلك ضد مصالح المسلمين الكبرى والدائمة.

للأسف النوايا الحسنة لا تكفي لوحدها، خصوصا في عالم محتقن يحتاج إلى عقل أثقل بكثير من القلوب الخفيفة.

[email protected]