حرب المائة عام القادمة؟!

TT

تساءل الكاتب الأميركي الأشهر فريد زكريا في مقال أخير في مجلة «نيوزويك» عما إذا كانت حرب أميركا ضد الإرهاب سوف تستمر مائة عام أو أكثر، ومدى تأثير ذلك على دور الدولة الأميركية وتدخلها في شؤون المجتمع. قضية الكاتب تخص الولايات المتحدة بامتياز، حيث طرح أن الولايات المتحدة اعتادت مع كل الحروب التي خاضتها أن تزيد من نفوذ وقدرة الدولة على التدخل في المجتمع لأن ذلك يقتضي مزيدا من التعبئة المالية والبشرية والأمنية للتعامل مع ظروف استثنائية. ولكن المسألة التي أقلقته هي أن الظروف الاستثنائية كانت تنتهي خلال بضع سنوات كما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، إذ عادت الدولة بعدها إلى قواعدها الحارسة مرة أخرى، وتركت المجتمع لشأنه، والمبادرة الفردية لمنافساتها. أما هذه المرة فإن الحرب ضد الإرهاب ليست نوعا من الحروب العادية التي تنتظم فيها جيوش ودول تتعارك حتى تصل إلى الإرهاق فتسوي الصراع، أو ينتصر فيها طرف على طرف آخر فيعيد تنظيم الدنيا من جديد. هذه الحرب من نوع آخر ممتد، يقع ما بين الحرب الباردة، والحرب الفعلية، ويجري في العقول والقلوب بقدر ما يجري في ساحات القتال، وفي الأطراف في دول متعددة مثل باكستان والصومال واليمن، بقدر ما يحدث في مسارح محددة مثل العراق وأفغانستان.

مصدر قلق فريد زكريا هو حال الدولة الأميركية إذا ما استمرت هذه الحرب مائة عام، وتاريخيا فإن حرب المائة عام لم تكن كذلك، بل إنها استمرت 116 عاما ما بين 1337 و1453، ودارت في الأساس حول من يحكم فرنسا بعد أن قامت أسرة منها - قاعدتها نورماندي - بغزو إنجلترا، ومن بعدها سعت لكي يكون تاجها إنجليزيا فرنسيا، فجاءت الحرب التي بدأت حول العروش، وجرت بين الجيوش، لكي تنتهي بين قومية إنجليزية وأخرى فرنسية، ونمت كلتاهما في أتون الحرب والمجاعة والبلاء والطاعون. ولكن الحرب الحالية ربما كانت أقرب إلى حرب الثلاثين عاما - من 1618 إلى 1648 - التي بدأت صراعا دينيا بين الكاثوليك والبروتستانت في إطار من الإمبراطورية الرومانية «المقدسة» أو ما تبقى منها، ومن ثم فإنه كان فيها مسحة من دين، ما لبثت أن أسفرت عن صراع حول توازن القوى والسيطرة والهيمنة، ليس فقط على الدول وإنما على المجتمعات أيضا.

ما يهمنا هنا هو أن السؤال الذي طرحه فريد زكريا بقدر ما هو مهم في إطاره الأميركي، فإنه لا يقل أهمية في إطار الدول العربية والإسلامية، حيث لا تبدو الحرب بعيدة عن التأثير في تطور المجتمعات. وبشكل ما فإن حرب المائة عام لدينا بدأت بالحملات الاستعمارية على الدول العربية والإسلامية ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ولم تخلُ في أبعاد منها من مسحات دينية سواء على جانب العدوان أو المقاومة، ثم تلتها حرب الستين عاما حول فلسطين حينما جاءت الصهيونية بجذور دينية عميقة عاشت عليها جماعات إسلامية لم تترك لحظة دون أن تستخدمها في إلهاب ظهور المسلمين بالذنب والمعصية. صحيح أن ظهور البعد الديني في السياسة الداخلية للدول العربية والإسلامية كانت له جذوره الموجودة في التاريخ، كما كانت له جذوره في الاستجابة لتحديات العصر الذي نعيشه. وجاءت هذه الجذور في أشكال إصلاحية أحيانا، وراديكالية أحيانا أخرى، وانتحارية في أحيان ثالثة. وفي كل الأحوال كانت مصدر ارتجاج المجتمعات ما بين السير على درب المعاصرة والتقدم، أو الرجوع إلى الأصول الأولى حيث المقدس والحكمة الدائمة.

هذه الحالة من الارتجاج كانت لها نتائجها على السلطة السياسية التي قامت على مولد الدولة القومية أو الوطنية كما اعتدنا التمييز والحديث عن ذات الشيء في آن واحد، والتي وجدت نفسها تواجه ليس فقط ضرورات «الأمن القومي» من خلال مواجهة التهديدات الخارجية من المستعمر أو الغاصب، وإنما أيضا تواجه مشكلة «الانفراط القومي» من خلال دعوات إسلامية تقضي على المواطنة في الداخل وتفتح الباب لروابط عبر قومية في الخارج.

وفي هذا المناخ فإن السلطة السياسية أصبحت تعيش الحيرة نفسها عندما باتت لا تعرف الحدود ما بين الهجوم الأجنبي على أبعاد من الشخصية القومية حيث الدين واحد من مقوماتها، وعما إذا كان ذلك تهديدا خارجيا للأمن القومي أو أنه تهديد داخلي يهدد بالانفراط والتفكك الداخلي. وتجربة العراق في ذلك شاهدة، حيث كانت ديكتاتورية صدام حسين الدامية قائمة على أساس حماية الوحدة الداخلية، والقومية الوطنية في العراق، حتى إذا ما جاء الغزو الأميركي كانت النتيجة الاحتلال الأجنبي مصحوبا بالانفراط والانقسام الداخلي مغلفا بغلالة ديمقراطية لا عمق لها.

وفي الدول العربية والإسلامية فإن الحرب ضد الإرهاب تأخذ أبعادا تشبه الحرب الأهلية التي قد تستعر أحيانا، وقد تخفت أحيانا أخرى، وقد تكون صريحة أحيانا، وقد تكون مستترة في أحيان أخرى. وإذا كانت هناك فضيلة واحدة لمسلسل «الجماعة» الذي أذاعته معظم الفضائيات التلفزيونية العربية خلال شهر رمضان المعظم، فهي أنه أشار إلى عمق المواجهة التاريخية ما بين «الدولة» المصرية العريقة وجماعة الإخوان المسلمين وتيار الإرهاب فيها حتى قبل قيام ثورة يوليو أو حتى بعد التطورات التي جرت على النظام السياسي المصري خلال العقود الستة الأخيرة. ورغم أن جماعة الإخوان لا يمكن تصنيفها حاليا ضمن التيار العام للحركات الإرهابية، فإن أفكارها تمثل الوعاء الذي تغترف منه كثير من هذه الحركات بداية تطرفها وتشددها وغلوها الذي يجعلها على بعد شعرة واحدة من العنف والقتل والإرهاب.

الحرب الأهلية هنا، التي تعمقها وتزيد أوارها الحرب العالمية ضد الإرهاب، تكاد تصيب كل أركان المجتمعات العربية والإسلامية، فهي تمس أوتار العلاقات بين الديانات المختلفة، وحتى بين المذاهب الإسلامية المتعددة، وبالطبيعة بين الأجناس المتنوعة التي تذخر بها الدول العربية والإسلامية، بل إنها كثيرا ما تمس البنيان القبلي لمجتمعات كلها إسلامية وسنية فينفرط حالها حتى لا يبقى منها إلا الفوضى والعنف حتى تصير كالمريض الذي عجز عن إيذاء الآخرين فأخذ في إيذاء نفسه. وما علينا إلا أن ننظر إلى أحوال السودان، والصومال، واليمن، والعراق، وباكستان، وأفغانستان، لكي نقترب من نتائج حرب تجاوزت الآن أكثر من مائة عام، أي منذ مولد الوحدات السياسية العربية والإسلامية التي انتهت بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وزوال الاستعمار إلى دول مستقلة.

وعودة إلى سؤال فريد زكريا وحرب المائة عام، فإذا كان السؤال يخص الولايات المتحدة فإنه يخصنا في ما هو أهم وما هو أخطر!