استعادة مسجد «غراوند زيرو» من المتطرفين

TT

في اللقاء الذي عقد معه في «مجلس العلاقات الخارجية» بنيويورك أول من أمس قيل للإمام فيصل عبد الرؤوف، الذي يقف وراء مشروع بناء مركز إسلامي قرب موقع هجمات 11 سبتمبر (أيلول) «غراوند زيرو»، إنه ذكر أخيرا أنه لو كان يعرف أن المشروع سيثير كل هذه الأزمة لما كان أقدم عليه، فلماذا لا يعيد النظر في الأمر الآن؟ رد الإمام فيصل على ذلك بالقول إنهم يبحثون الآن في كل الخيارات وإن جميع الأمور مطروحة على الطاولة لإيجاد تسوية تحتوي الأزمة.

هذا الكلام يعكس إدراكا للحقيقة التي تحدث عنها كثيرون، وهي أن الضجة التي رافقت الإعلان عن هذا المشروع أحدثت ضررا كبيرا وأعطت فرصة للمتطرفين لإذكاء نيران الكراهية وتغذية الجهل. فالمشروع الذي يقول القائمون عليه إنهم يريدونه مركزا للتسامح والتقارب، تحول إلى موسم جديد للهجوم على الإسلام وتشويه صورة المسلمين. وهكذا رأينا قسا مغمورا في كنيسة صغيرة لم يسمع بها غالبية الأميركيين يركب الموجة ليسلط الأضواء على نفسه من خلال خطوة دنيئة بالإعلان عن أنه سيقوم بحرق نسخ من المصحف الشريف في ذكرى 11 سبتمبر. ثم عاد الرجل - الذي لا يستحق أن يطلق عليه وصف قس - ليعترف لاحقا بعد إعلان تراجعه عن الخطوة بأنه لم يكن ينوي حرق نسخ من المصحف، مما يعني أنه استغل المسألة لركوب الموجة الإعلامية واكتساب شهرة غير مستحقة بالتجني على الإسلام.

كما رأينا كيف أن متعصبين من أمثال النائب الهولندي غيرت فيلدرز وجدوا في الضجة فرصة لبث حقدهم وصب المزيد من الزيت على النار. فطار الرجل، الذي جعل من معاداة الإسلام علامة تجارية وسياسية له، إلى نيويورك ليخاطب مظاهرة للمعارضين لبناء المركز الإسلامي بالقرب من «غراوند زيرو» قائلا بلغة التحريض: «ارسموا خطا لكي لا تصبح نيويورك مكة جديدة».

في ظل هذه الأجواء كان المرء يتمنى لو أن القائمين على المشروع تحركوا باكرا، وهم العارفون بالأجواء في أميركا وبالمشاعر المشحونة التي ترافق ذكرى هجمات سبتمبر، لإيجاد تسوية تضع حدا لاختطاف المتطرفين للحدث وتحويله إلى مناسبة جديدة للتهجم على الإسلام. فالإمام فيصل كان يقوم بجولة في عدد من الدول العربية، بينما الضجة تتسع والأصوات المتطرفة تؤجج في المشاعر المعادية للمشروع، وتحيله إلى فرصة للهجوم على الإسلام والمسلمين. لكن كما يبدو من كلامه أول من أمس فإنه والقائمين على مشروع «مركز قرطبة» لم يكونوا يتوقعون حجم الضجة التي سيثيرها المشروع، أما وقد تبين الأمر الآن واتضح حجم الضرر والشظايا التي أصابت المسلمين في كل مكان، فالتحرك السريع بات واجبا للحد من الأضرار وتقديم المنافع على المفاسد. فعلى الرغم من أن هناك مستنيرين ومنفتحين في أميركا دافعوا عن المشروع، وأيدوا حق المسلمين في إنشاء دور عبادة في أي مكان وفقا للدستور الأميركي، الذي يكفل حرية العبادة والاعتقاد، فإن الغالبية العظمى في أميركا لديها جهل بالإسلام ومعلومات وصور مشوهة عن المسلمين، لذلك جاءت نتائج استطلاعات الرأي لتنقل معارضة غالبية الأميركيين لبناء المركز الإسلامي قرب «غراوند زيرو». والأدهى من ذلك أن الاستطلاعات بينت أن أكثر من نصف الأميركيين لديهم صورة سلبية جدا عن المسلمين.

مثل هذا الوضع لا يعالج بالإصرار على بناء المركز في ذات المكان المثير لكثير من الحساسيات، علما بأن نيويورك فيها أكثر من 120 مسجدا، وعدد المساجد في أميركا يفوق 1200 (منها 227 مسجدا في ولاية كاليفورنيا وحدها). فتصحيح الصورة عن الإسلام والمسلمين يحتاج إلى جهود كبيرة، أهمها سد المنافذ أمام المتطرفين الذين ينادون بـ«صراع الحضارات». ولا بد أن نقر بأنه مثلما يوجد متطرفون في الغرب، يوجد لدينا مثلهم يسهمون بأفعالهم وكلامهم في الإساءة إلى الإسلام وتشويه صورة المسلمين، وبعض هؤلاء يتحين الفرصة لتغذية التطرف لشن موجات جديدة من الإرهاب الذي ضرب العالم الإسلامي أكثر مما ضرب الغرب.

إن مشروع «مركز قرطبة» ربما حمل نيات حسنة كثيرة، لكن اختيار المكان وتوقيت الإعلان عنه، كانا خطوتين لم يحالفهما التوفيق. فالإعلان جاء قبل فترة وجيزة من الذكرى التاسعة لهجمات سبتمبر، مما ساعد على تأجيج المشاعر، خصوصا أن المكان لا يبعد كثيرا عن مكان لا يزال يحمل بصمات وآثار هجمات 11 سبتمبر الإرهابية. يضاف إلى ذلك أن فكرة المشروع طرحت في الوقت الذي بدأت فيه الحملات السياسية استعدادا لانتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي، مما حول الأمر إلى ساحة للمبارزة السياسية ومحاولة كسب الأصوات. واستغل البعض الضجة لتوجيه ضربات تحت الحزام للرئيس أوباما، خصوصا عندما انبرى للدفاع عن حق المسلمين في إنشاء دور عبادة في أي مكان من الأرض الأميركية، علما بأنه كان يؤدي واجبه الذي يمليه عليه منصبه في الدفاع عن الدستور الأميركي.

إن الأمور تقاس دائما بنتائجها، وخيرا يفعل القائمون على «مركز قرطبة» عندما يتحركون الآن لتدارك الموقف وانتزاع فكرتهم من أيدي المتطرفين الذين استغلوها في اتجاهات ليس فيها خير للإسلام وللمسلمين.