دروس الاستفتاء التركي

TT

انتخابات 22 يوليو (تموز) 2007 كانت تاريخ البروفة الأولى لزحزحة الهيكل و12 سبتمبر (أيلول) 2010 كان موعد إسقاطه. الغالبية في تركيا لم تعد تريد الحديث عن خطوط حمراء فرضها البعض للتلطي بحصون وقلاع العلمانيين والأتاتوركيين المتشددين. المسافة تتقلص يوما بعد الآخر بين توجهين وتيارين وذهنيتين تصادمتا لعقود في تركيا. والعامل المؤثر هنا هو قرار الشارع التركي الذي صوت بنسبة 58 في المائة لصالح التعديلات الدستورية وبالتالي رفع البطاقة الصفراء بوجه أساليب التخوين والإهانة والاستفزاز التي ستكون مكلفة لكل المتاجرين بها.. المقترع التركي قال وبشكل حاسم: نعم للتغيير وإعلان دستور جديد ولبقاء حزب العدالة والتنمية في الحكم لحقبة جديدة لحماية الانتصارات والإنجازات التي تحققت في الداخل والخارج.

المحكمة الدستورية قالت كلمتها قبل عامين في مواجهة قرار البرلمان وارتفاع 411 إصبعا باسم إزالة التوتر في موضوع الحجاب. والبعض يريد اليوم تجاهل 22 مليون إصبع رفع باسم التغيير والتجديد ومواصلة طريق الإصلاحات، متجاهلا الفرق الشاسع بين الـ«نعم» والـ«لا». المقترع التركي كان يعرف وهو في طريقه إلى مراكز التصويت أنها معركة طحن عظام جديدة وأنها لم تكن مسألة تصويت عادي على استفتاء لتغيير بعض المواد الدستورية. هي كانت مواجهة بين قوى المعارضة التي تريد إزاحة أردوغان «المزعج والمتمرد» وحزبه عن الحكم وتصفية هذا النهج وأسلوب الإدارة من جهة وملايين المراهنين على ضرورة المضي فيما بدأه الحزب وتحقيق الوعود التي قطعها من جهة ثانية.

الصناديق تقول إن رجب طيب أردوغان وحزبه حققا انتصارا كبيرا كانا يريدانه ويحتاجان إليه لمواصلة حملات الإصلاح والتغيير ولاسترداد بعض المعنويات في أعقاب أكثر من طعنة واستفزاز وتمرد داخلي وخارجي في الآونة الأخيرة دفعت الكثيرين لطرح السؤال عما إذا كانت ساعة التفكك والتراجع قد اقتربت بالنسبة لعهد العدالة، فكان الرد عنيفا بحجم قوة التحريض والاستفزاز والسيناريوهات الحالمة.

أردوغان كان له ما أراد، وبات يملك المزيد من القوة لمواصلة البرامج والحملات الإصلاحية، لا، بل إن هذه النتائج ستدفعه لإخراج الكثير من الملفات من درج مكتبه بعدما كان قد أجبر على وضعها جانبا بسبب التهويل والتهديد، والمفاجآت المقبلة ستتمحور حول إطلاق دستور جديد للبلاد ومناقشة النظام الرئاسي بدل النظام البرلماني القائم وتحضير أردوغان نفسه للتذكير بأنه على استعداد لتسلم القيادة من عبد الله غل عند انتهاء فترة حكمه الرئاسي واللجوء إلى انتخابات نيابية عامة مبكرة إذا ما أصرت المعارضة على المنازلة بما بقي لديها من عتاد وذخيرة.

لكن المقترع التركي قال أيضا إن حكومة أردوغان لا بد أن تتعامل بجدية مع قرار 14 مليون مواطن بعدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع، كان أكراد جنوب شرق تركيا الحصة الأكبر فيهم. فقرار المقاطعة الذي تبناه حزب السلم والديمقراطية نجح إلى حد كبير في مدن الغالبية الكردية، ولا يمكن التخفي وراء الأصابع لتجاهل قضية داخلية كبيرة من هذا النوع وضرورة التعامل معها بأسلوب انفتاحي ديمقراطي عادل لحماية الأرض والشعب والمؤسسات.

الدرس الذي استخلصه الغرب من صناديق الاقتراع هو أن تركيا اقتربت خطوة أخرى من المشروع الأوروبي، في حين أن مراكز القوى في الاتحاد مثل ألمانيا وفرنسا تتمسك بعرقلة طلب عضويتها وطرح البدائل والخيارات التي ترفضها أنقرة جملة وتفصيلا، ملوّحة بتوسيع رقعة بدائلها الاستراتيجية الإقليمية والدولية ضمن حملات انفتاحية شاملة على العالمين العربي والإسلامي والجار الروسي تحديدا.

أما الدرس الذي وصل إليه الإعلام العربي، كما تابعنا في اليومين الأخيرين، كان مع الأسف يتمحور حول «صفعة جديدة للعلمانيين» و«تراجع متواصل في نفوذ الجيش» و«القلاع الأتاتوركية تسقط الواحدة بعد الأخرى» معظمها تجاهل أخذ العبر والدروس من مسار التجربة الديمقراطية الجديدة في تركيا التي تعيشها البلاد منذ أكثر من 10 أعوام تحديدا. قليلون جدا هم الذين كتبوا عن موضوع الحريات ومطلب التغيير الذي يزداد انتشارا بشكليه العمودي والأفقي وضرورة الاستفادة من التجربة التركية في العلاقة بين الأنظمة والقيادات السياسية والقواعد الشعبية في عواصمنا العربية.