ذلك الطريق

TT

غاب ياسر عرفات منذ ست سنوات وهو يحلم بدولة فلسطينية. كان يقول أعطوني أرضا ولو في حجم أريحا، فأخذ غزة والضفة، ولكن بسلطة من دون دولة. أحيا الحلم بالعودة ومات وحق العودة هو العقدة الأولى في طريق الدولة. بدأ نضاله يطلب دولة من البحر إلى النهر، وأنهى سياساته متقاسما «نوبل السلام» مع إسحاق رابين وشيمعون بيريس.

كان عرفات يحب عباس ولا يريده. وفي قرارة نفسه لم يكن يريد أن يخلفه أحد قبل أن تصبح فلسطين دولة ويصبح محمد عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني، رئيسها. كان عباس آخر الرفاق المؤسسين في صف طويل، قضى استشهادا أو خيانة أو قدرا. وكان أقربهم إلى الخلافة صلاح خلف (أبو إياد)، الذي كان يوعز لأصدقائه من الصحافيين أن يسموه «الرجل الثاني في فتح». وكان أبو عمار يتضايق من «حكاية الراجل الثاني دي؛ هو احنا مدرسة».

في النهاية خلفه الرجل الأكثر بعدا والأقل توقعا. وربما بسبب بعد أبو مازن عن عمان وبيروت وتونس، لم يقع تحت مدافع إسرائيل وحساسيات أبو عمار من «حكاية الراجل الثاني دي». ومع ذهاب أبو عمار إلى باريس، قابضا على آخر خيوط السلطة وآخر أطراف الحلم، بدا أن الرجل الناحل يرفع شارة النصر للمرة الأخيرة. هذه المرة كان يودع ويختم طريقا عجيبا من الزئبق والصمود والدماء.

ظن كثيرون أن أبو مازن المعتدل سوف يقطف حصرم العذاب الفلسطيني. سوف يمنحه الأميركيون ما قيل إنهم وعدوه به. وسوف يقبل الإسرائيليون به حلا بعد خلاصهم من أبو عمار وقفزه فوق المسامير. ورأى العرب أن الرجل سوف يحيي المسيرة التي توقفت منذ أن أسر أرييل شارون أبو عمار في «المقاطعة»، لا يقابل أحدا سوى الفضوليين وسياح السلام البسطاء والناشط الإسرائيلي العتيق يوري أفنيري.

وجد أبو مازن نفسه على رأس سلطة ضعيفة، تغمرها تهم الفساد، بدل أحلام العودة. ثم وجد نفسه أمام عدد تاريخي يصارعه وينازعه على الأرض، وفي مواجهة خصم وطني، يصارعه وينازعه على السلطة. كان أبو عمار يستغل «المتطرفين» ويلعب بأوراقهم مع الأميركيين وفي وجه إسرائيل، لكن حماس اعتصمت خلف غزة وتركت لمحمود عباس ضفة متعبة يفاوض عليها.

بين أوسلو 1993 ومفاوضات واشنطن 2010، انتقلت إسرائيل من إسحاق رابين إلى نتنياهو وإلى جانبه، كما إلى جانب رابين، تمثال الشمع بيريس، وانتقلت فلسطين من أوراق محمد القدوة إلى وفاض أبو مازن المُفرَغ. لا تؤدي «الآدمية» دائما إلى الغايات والأحلام. مع أن للقواعد شواذها أحيانا.