العراق يدفع الثمن

TT

في هذا الوقت الذي يتعالى فيه الصياح لإجلاء القوات الأميركية من العراق باسم الوطن والوطنية، يغيب عن الذهن أن ما يعانيه العراق اليوم يعود أساسا لديماغوجية الوطنية والقومية والشيوعية. قلما يتذكرون أن الإنجليز عندما أعلنوا استقلال العراق في العشرينات رفضت إيران الاعتراف باستقلاله. وساندتها في ذلك فتاوى صدرت من النجف بتحريم الحكومة العراقية وتحريم العمل لها، بما أدى عمليا إلى تولي السنة مسؤوليات الحكم والإدارة. بيد أن إنجلترا واصلت دعمها لاستقلال العراق بإدخاله عضوا في عصبة الأمم ثم الضغط على إيران للاعتراف باستقلاله، وهو ما تم في الثلاثينات. أدرك الشاه أن وجود الإنجليز في العراق لن يعطيه فرصة لابتلاعه. بيد أنه عاد فطالب عام 1936 بنصيب أكبر من شط العرب. تعالى صراخ الوطنيين الديماغوجي برفض الطلب ومحاربة إيران. سمعت أحدهم يقول إن طه الهاشمي وضع خطة تمكن الجيش العراقي من الوصول إلى طهران في 48 ساعة!

بيد أن الإنجليز تدخلوا في الموضوع وراء الستار وحلوا الأزمة مع الشاه بتسوية سلمية حافظت عمليا على بقاء السيادة العراقية على كل مياه شط العرب. بقيت إنجلترا الحارس الأمين لمصالح العراق ووحدته لقاء حصة جيدة من نفطه. وأعتقد أنها كانت صفقة معقولة، كما أثبتت الأحداث الآن.

رتبت أثناء الحرب الباردة إقامة حلف بغداد الذي جعل العراق مركزا لحلف متين يضم باكستان وإيران وتركيا وشراكة إنجلترا وأميركا. كان من ثمرات الحلف تعزيز القوات المسلحة العراقية وتوسيع حركة الإعمار والتنمية وإقامة أول مركز ذري وأول محطة تلفزيونية في العالم العربي. أصبحت بغداد محورا للنشاطات. ولكن إخواننا الديماغوجيين، وكنت واحدا منهم، نظروا إلى الحلف كطاعون ورأس حربة ضد الاتحاد السوفياتي، وكأن كل ما يخاف منه السوفيات كان الجيش العراقي!

تمكنوا أخيرا من القيام بانقلاب 1958 وكان من أولى خطواتهم الانسحاب من حلف بغداد والقضاء على الهيمنة البريطانية. وبدأت المصائب. كان أولها تآمر الأميركان مع البعث على إسقاط عبد الكريم قاسم وذبح الحركة اليسارية. لم يقدم الأميركان على ذلك لو أن العراق حافظ على حلف بغداد. وبعد انتهاء الحلف، تشجع الشاه للمطالبة بمزيد من شط العرب. عمد إلى دعم الثورة الكردية بما أجبر صدام حسين على الاستسلام لإرادته باتفاقية الجزائر التي أصبحت بدورها المبرر لغزو إيران. وتوالت المصائب. كان من آخرها نهب الدول المجاورة لمياه دجلة والفرات في غياب أي حكومة وطنية فعالة وأي حماية خارجية حقيقية لمصالح البلد. ونرى الآن كل هذا الفساد والإرهاب وتمزق الوحدة الوطنية. وكله في رأيي ثمن لعنجهية الوطنية والقومية والشيوعية. رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. وما قيل عن الفرد يقال عن الشعب. ما يحتاجه العراق هو ليس قوة تسهر على أمنه، كما ينوي الأميركان، وإنما قوة تتولى إدارته ورعاية مصالحه وحقوق شعبه وتعده لحياة القرن الواحد والعشرين وليس لحياة القرن الثامن. الحكم السليم هو ما يعطي الأمن لبلد.