سطوة أصحاب المدونات

TT

بكين - كانت تلك اللحظة محتومة، فمنذ أن بدأت الصين تنفض عن نفسها غبار الشيوعية وتتحول إلى قوة اقتصادية عالمية، عمد قادتها إلى اتباع استراتيجية «الصعود السلمي» - التي تقوم على ضرورة التحلي بالتواضع والتصرف بحذر وعدم إثارة الخوف في نفوس الدول المجاورة، وقطعا عدم تشكيل أي تحالف ضدنا. إلا أنه خلال السنوات الأخيرة ومع معاناة النموذج الاقتصادي الأميركي لصدمة محرجة وجهها لنفسه بنفسه، في وقت مضى فيه ما يطلق عليه «إجماع بكين» قدما، ظهرت أصوات في الصين تؤكد أن «المستقبل لنا»، وأنه يتعين على الصينيين دفع العالم بقوة أكبر نحو إدراك ذلك. في الوقت الراهن، تصدر هذه الأصوات في معظمها من جنرالات متقاعدين ومدونين منفعلين - في الوقت الذي احتفظت فيه القيادة الصينية بحذرها. إلا أن مشاحنة دبلوماسية اندلعت الصيف الماضي أثارت لدى جيران الصين، ناهيك عن واشنطن، التساؤلات حول إلى متى ستبقي الصين على سياستها الرقيقة الحالية. مع وجود قرابة 70 مليون مدون في الصين، يجد القادة الصينيون أنفسهم تحت ضغوط مستمرة حاليا لاتخاذ توجهات أقوى من جانب مدونين شعبويين وذوي ميول قومية، خاصة أنه في ظل غياب انتخابات ديمقراطية، تتحول هذه المدونات إلى الصوت الفعلي للشعب. وقعت المشاحنة الدبلوماسية سالفة الذكر خلال جلسة للمنتدى الإقليمي لاتحاد دول جنوب شرقي آسيا، المعروف اختصارا باسم «آسيان»، والتي انعقدت في 23 يوليو (تموز) في هانوي. وكان من بين الحضور 10 وزراء خارجية لدول أعضاء بالاتحاد، علاوة على وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الخارجية الصيني يانغ جيتشي. وطبقا لما ذكره أحد الدبلوماسيين الذين حضروا الجلسة، فإن وزراء دول «آسيان» حذروا الصين بحزم حيال ضرورة تراجعها عن قرارها بإعلان «السيادة المطلقة» على بحر الصين الجنوبي الغني بالموارد بأكمله، والذي يمتد من سنغافورة إلى مضيق تايوان مرورا بفيتنام، وتمر من خلاله قرابة نصف الشحنات التجارية العالمية سنويا. ومن المعتقد أن قاعه يضم مخزونات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي. الملاحظ أن الأسطول الصيني أصبح أكثر عدوانية في مصادرته لسفن الصيد التي يزعم انتهاكها للسيادة الصينية بالمنطقة. كما تورطت بكين في نزاعات بحرية مع كوريا الجنوبية واليابان.

ومع إقدام وزير تلو الآخر خلال اجتماع منظمة «آسيان» على التأكيد على مطالبها بالسيادة على قطاعات من بحر الصين الجنوبي أو المطالبة بضرورة تسوية أي نزاعات إقليمية على نحو سلمي وطبقا لما يمليه القانون الدولي، ازداد غضب وزير الخارجية الصيني، تبعا لما ذكره أحد المشاركين. وبعد إلقاء كلينتون كلمتها وتأكيدها على أن بحر الصين الجنوبي يشكل منطقة تحمل أهمية للولايات المتحدة باعتبارها «مصلحة قومية» تتعلق بـ«حرية الملاحة»، طلب وزير الخارجية الصيني رفع الجلسة لفترة موجزة.

بعد ذلك، عاد يانغ ليتحدث ارتجالا من دون النظر إلى نص لمدة 25 دقيقة، مشددا على أن هذه القضية تحمل طابعا ثنائيا، وليست بين الصين و«آسيان». وخلال حديثه، تعمد النظر كثيرا باتجاه كلينتون، بما في ذلك تشديده على أن «الصين دولة كبيرة»، بينما تعد معظم الدول الأعضاء في «آسيان» «دولا صغيرة»، حسبما أوردت صحيفة «واشنطن بوست». وأشار الدبلوماسي سالف الذكر إلى أنه كان هناك إجماع داخل القاعة حول أن الوزير الصيني كان يحاول تهديد الحاضرين والفصل بين الدول المطالبة بحقوق سيادة داخل بحر الصين الجنوبي والأخرى التي لا صلة لها به، بحيث تعجز «آسيان» عن اتخاذ إجراء جماعي وتضطر كل دولة إلى التفاوض مع بكين على نحو منفصل.

ومع وصول أنباء سلبية عما أحدثته خطبة يانغ في بكين، عمد القادة الصينيون إلى التقليل من أهمية الأمر برمته، خوفا من أن يدفعوا جميع الدول المجاورة لهم إلى أحضان النفوذ الأميركي بعد عقد من تراجعه في المنطقة.

إلا أن قدرة قادة بكين على التلطيف من تداعيات ما حدث ستعتمد، في جزء منها، على طرف ثالث: «المدونين الصينيين»، حيث يملك جيل كامل من الصينيين الذي جرت تنشئته على يد الحكومة على فكرة أن واشنطن والغرب يرغبان في كبح جماح الصين ومنعها من الصعود، الآن مكبرات صوت خاصة يمكنهم من خلالها التنديد بأي مسؤول صيني يقدم تنازلات مفرطة، من وجهة نظرهم، باعتباره «مواليا لأميركا» أو «خائنا».

المثير أن السفارة الأميركية ببكين شرعت في محاولة التواصل مع هؤلاء المدونين - بل دعت مدونين إلى السفر برفقة السفير الأميركي جون هنتسمان، وعقد لقاء معه لدى زيارته للإقليم الصيني الذي يعيشون به - وذلك سعيا لنقل الرسالة الأميركية مباشرة من دون تنقيحها عبر وسائل الإعلام الصينية المملوكة للدولة. وشرح هو يونغ، خبير شؤون المدونات بجامعة بيكينغ، أن «الصين للمرة الأولى أصبحت لديها مساحة عامة لمناقشة كل شيء يؤثر على المواطنين الصينيين. في ظل وسائل الإعلام التقليدية، كان أعضاء النخبة فقط هم من يملكون صوتا، لكن شبكة الإنترنت بدلت هذا الوضع». وأضاف: «أصبح لدينا الآن وسائل إعلام عابرة للحدود الوطنية، وأصبح المجتمع برمته يتحدث. وعليه، أصبح بإمكان أفراد من مختلف الأقاليم الصينية مناقشة ما يدور في قرى نائية. وتنتشر الأنباء في كل مكان». واستطرد بأن عالم الإنترنت «يتسم بطابع أكثر شعبوية ووطنية. وكان من شأن مرور سنوات طويلة على تلقيننا أن أعداءنا يرغبون في كبح جماحنا، إفراز جيل كامل من الشباب يفكر على هذا النحو، وأصبح أمامه متنفس للتعبير عن هذه الأفكار عبر الإنترنت».

وعلينا أن نراقب ما يجري على هذا الصعيد. لقد ولّت منذ أمد بعيد الأيام التي كان بمقدور نيكسون وماو خلالها إدارة هذه العلاقة سرا. وتتفاعل الكثير من العوامل غير المستقرة داخل بكين اليوم، بجانب ظهور عناصر أكثر بكثير قادرة على إشعال أو تلطيف الأجواء الأميركية - الصينية، أو بمعنى آخر فإن هذا الزواج يضم ثلاثة أطراف، وليس اثنين.

* خدمة «نيويورك تايمز»