النهضة العربية في وعي مفكريها

TT

الحديث عن المفكرين العرب في «عصر النهضة» يحمل على التساؤل عن المعنى الذي كانت «النهضة» تمثل به في الوعي، وعي أولئك المفكرين. الجواب الأول المباشر أنها كانت تحضر على نحو مشابه للنحو الذي تجلت فيه نهضة أخرى، هي النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر وهذا من وجه أول؛ كما أنها، من وجه ثان، كانت تحضر في الوعي العربي في عصر النهضة على نحو مغاير للمعنى الذي كانت النهضة، في الوعي الأوروبي، تحضر به في عصر النهضة الأوروبية. أما توضيح أوجه الاختلاف فتمكن صياغتها، بكيفية موجزة، على النحو التالي:

تشترك «النهضة» (عند كل من الأوروبيين في القرن الـ16 ومفكري «عصر النهضة» العرب) في الدعوة إلى الرجوع للأصول الأولى، الصافية، للمصادر الأصلية قبل أن يصيبها التشويه والتعتيم في عصور التدهور والظلام، ثم يلفها النسيان بعد ذلك فتكتسح الساحة المعرفية معارف وكتابات رديئة تجنح جهة الغموض، بدعوى الاختصار والتلخيص، وتغرق في النقاشات الهامشية العقيمة، بدعوى الاعتراض على المتنطعين والمنكرين.. أما الأصول الصافية أو المصادر الأصلية التي كان مفكرو النهضة يطالبون بالعودة إليها فهي الفلسفة اليونانية (مؤلفات أرسطو، وقد خلت من شروح وتعليقات آباء الكنيسة حيث يختفي الأصل ويندثر. ومؤلفات أفلاطون، والرواقية، والأبيقورية، وكتب الفلك والنصوص العلمية مع ندرتها). كانت الدعوة إلى الرجوع للأصول (وهي التي اشتهرت أيضا بالنزعة الإنسية) تتوخى إصابة ثلاثة أهداف رئيسية. الهدف الأول تحرير العقل من الخرافة ومن هيمنة رجال الكنيسة. الهدف الثاني اعتبار العقل، وقد تحرر من الخرافة، قادرا بمفرده على الوصول إلى الحقيقة وعلى الارتكان في ذلك إلى ما يوجد في الطبيعة وليس ما كان ثاويا في بطون الكتب (ومن ثم فكرة «الكتاب الكبير»، أي الطبيعة في اتساع مداها بعيدا عن مجادلات آباء الكنيسة). الهدف الثالث هو الانتهاء إلى تمييز واضح، لا لبس فيه، بين مجالي كل من العقل والإيمان، والفصل بين ما كان نظرا لاهوتيا وما كان فكرا فلسفيا مجردا، وبالتالي قابلا للأخذ والرد.

كان مفكرونا العرب في «عصر النهضة» يتحدثون بدورهم عن الأصول الصافية والمنابع الخالصة، غير أن هذه كانت تعني عندهم، أولا وأساسا، الدين الإسلامي. وكما كان مفكرو النهضة الأوروبية يتحدثون عن التشويه الذي لحق بالأصول، في العصور الوسطى الطويلة، كان مفكرو «عصر النهضة» ينحون باللائمة على أهل «عهد الانحطاط» الذي غل الفكر العربي الإسلامي بأغلال التقليد والجمود ومعاداة النظر العقلي، والحال أن الإسلام دعوة إلى إعمال العقل والتدبر، وإقبال على الأخذ بأسباب الحياة. من ثم نجد أن المعنى الأول الذي كانت «النهضة» تفيده، في الوعي العربي الإسلامي المعاصر، هو تنقية الدين وإعادة فتح أبواب الاجتهاد والبحث عن مقاصد الشرع في التشريعات (حتى يكون النظر في «النوازل» نظرا صالحا).

وجماع كل هذه الفهوم والمعاني هو: الإصلاح. لذلك، أيضا، كان الإصلاح في كتابات المصلحين المسلمين المعاصرين مرادفا لمفهوم النهضة ذاته. في هذا المعنى كان الإصلاح متضمنا لمعنى آخر هو «التقدم». وكما يجعل ذلك عنوانا لكتابه الممتاز الباحث المقتدر والصديق الكريم فهمي جدعان «أسس التقدم عند مفكري الإسلام»، فهو يكمن فيه وهو متضمن له. إن هذا التطابق بين الإصلاح والتقدم هو الفرق في الدلالة بين النهضة في الوعي العربي الإسلامي المعاصر ووعي النهضة في الفكر الغربي في القرن السابع عشر. النهضة الأوروبية إرادة لمجاوزة أفكار دعاة الإصلاح الديني في الغرب الأوروبي والنهضة، في وعي الإصلاحيين المسلمين، في عصر النهضة برنامج شامل في الإصلاح الديني ودفاع عنه.

أمر آخر، نكاد اليوم ننساه مع الحاجة إليه، هو أن الفكر العربي في عصر النهضة نظر في أسباب التقدم الأوروبي أو في «التمدن» (وهي العبارة التي كانت دوما على لسان محمد عبده والكواكبي ونظرائهما، فضلا عن الكثير من الذين أعقبوهما)، فلم يجد غضاضة في الأخذ بتلك الأسباب. شتان ما بين النظرة الإيجابية إلى الغرب الأوروبي عند مفكري الإسلام في الحقبة المذكورة والنظرة السلبية تلك، التي تفيض استعلاء واحتقارا، والتي سينظر بها إلى ذلك الغرب الشيخ سيد قطب وشيعته - بعد قرابة القرن من الزمان، والحال اليوم أشد سلبا في خطابات الغلو والسلفيات الجهادية بمختلف أصنافها.

ذلك أن الأمر، عند مفكرينا في عصر النهضة، لم يكن يخرج عن اعتبارين اثنين. الاعتبار الأول هو التسليم بأن «التمدن»، في نهاية الأمر، يجد جذوره وجراثيمه الأولى في الإسلام، فالحضارة الإسلامية سباقة في الرقي، والإسلام - باعتباره دينا - يحث على طلب العلم حيثما كان، ويدعو إلى إعمال العقل، ومن جهة أخرى، لا يقر وجود سلطة دينية عليا تراقب العقول وتتحكم في الضمائر (تلك إحدى القضايا التي ينبري لها الشيخ محمد عبده في «الإسلام والنصرانية»)، وإذن ففي الإقبال على ما عند أوروبا إقبال، حسب الشيخ عبده، على الإسلام على الحقيقة، ومن التمييز الشهير عند صاحب «الإسلام والرد على منتقديه» بين الإسلام والمسلمين. وأما الاعتبار الثاني فهو القول، جملة، بأن العلاقة المنطقية بين الإسلام والعصر هي علاقة وئام؛ إذ إن الإسلام يمتلك القدرة على المواكبة وهو ما يقود إلى القول - وقد سلكنا في البرهنة طريقا مختلفا - إلى الدعوة إلى الإقبال على الغرب الأوروبي والأخذ مما عنده اليوم من أسباب «التمدن». الأخذ، عند الإصلاحيين المسلمين المعاصرين، هو «الاقتباس» والاقتباس هو امتلاك القدرة على التمييز بين ما يمكن الأخذ به وما لا يمكن.

حضور «النهضة» في الوعي العربي المعاصر (العربي الإسلامي والعربي غير الإسلامي على السواء إذ القضية واحدة في عين القراءة التي تلتمس النفاذ إلى العمق) على النحو المذكور، جعل الفكر العربي المعاصر يطرح قضية الاستبداد (على النحو الذي نجده عند الكواكبي تمثيلا لا حصرا)، وقضية التقليد ورفضه (كما نجد ذلك، ونقول ثانية إن القول تمثيل لا حصر، عند محمد عبده والأفغاني في المشرق العربي، ثم عند اللاحقين عليهما من مفكري المغرب العربي والمشرق العربي على السواء)، وقضية المرأة وتحريرها من الأمية والطغيان (قاسم أمين في مصر، والطاهر الحداد في تونس، ومحمد الحجوي في المغرب)، المشكلات الأخرى التي تتصل بالعادات الاجتماعية السلبية، والتعليم، ثم قضايا التحرر الوطني.

لا نهضة ممكنة من دون الرجوع إلى أصل يكون عنه البدء بدءا جديدا تستمد منه الذات الحضارية الثقة في النفس والأمل في الغد. ولا نهضة ممكنة دون رفض لحاضر لا يكون الرضا عنه؛ ثم - قبل هذا وذاك - لا نهضة ممكنة مع تفشي الأمية وواقع الاستبداد. لا نهضة، بالتالي، دون انتفاض. ذاك، فيما نرى هو عمق الإدراك في وعي مفكرينا في عصر النهضة.

* كاتب مغربي