الاجتهاد.. والذهب!

TT

في ظل احتدام آثار الأزمة الاقتصادية العالمية على أوضاع الدول، من الطبيعي أن تحدث مراجعات جادة للكثير من السياسات المالية والنقدية. ولعل من المراجعات اللافتة التي بدأ يتبناها كثير من الخبراء الاقتصاديين أصحاب الحضور المؤثر، ضرورة الحذر من الاستمرار في التعامل بالعملة النقدية كوسيلة اقتصادية، لأن العملات النقدية فقدت قيمتها (وخصوصا الدولار الأميركي) وأن الدولة المصدرة لها تتولى طباعة العملة وإغراق أسواق العالم بها دون رادع ولا مانع، وأيضا دون «غطاء» كاف وجدير وحقيقي لقيمة العملة الورقية، ومع هذا الحال المتغير خرجت أصوات منذ فترة داخل العالم الاقتصادي للدول الإسلامية تشكك في وقوع الربا داخل منظومة التعامل النقدي الورقي، وهي تستند في هذا الطرح إلى أن الفقهاء المسلمين قالوا إن الربا يسري في الذهب والفضة فقط، مستدلين بما أجمع عليه السادة المالكية والسادة الشافعية والسادة الحنابلة (فقط السادة الأحناف كان لهم رأي آخر في هذه المسألة)، وبما أن العملات الورقية لا غطاء لها من الذهب اليوم، بعد قرار الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون بإزالة الغطاء الذهبي من على الدولار، فالربا بالتالي لا يقع. وطبعا كان هذا الرد مكانا للأخذ والرد، وهو يعكس وجود جدل وحوار صحي في أروقة الإفتاء الاقتصادي الإسلامي، وهذا الجدل والحوار والتوسع في الاجتهاد مطلوب، خصوصا في ظل وجود آراء متحفظة على نوعية الإفتاء في مسائل بالغة الأهمية، لعل أبرزها ما تم الإفتاء به في التأمين والصكوك والتورق. فالتأمين يتم التطرق إليه من وجهة نظر ناقصة في بعض الأحيان، ويقول بعض المفتين في مسائله «إنه علينا العودة إلى ما قال به وكان عليه علماؤنا من السلف الصالح» وهذه جملة مطاطة جدا، لأن التأمين كصناعة لا يزيد عمرها عن المائة وخمسين عاما على أقصى تقدير، وبالتالي من الظلم تحميل السلف الصالح مسألة لم يعايشوها أو يعرفوها. أما بالنسبة لمسألة الصكوك فهناك اختلافات وتباينات «تقنية» في توضيح وتعريف ماهية الصكوك ووظيفتها، وما إذا كان المنتج المقدم حاليا باسم «الصكوك» في الأسواق المالية الإسلامية يؤدي فعلا هذا الغرض أم لا. وبخصوص مسألة «التورق» فهي مسألة تمويلية معقدة نالت الكثير من الشد والجذب، فهناك فرق تعتمدها وأخرى تعترض عليها، ولكن الرأي الأخير المقدم من الشيخ السالمي رئيس الهيئة الشرعية للبنك الإسلامي للتنمية كان قويا وقطعيا ومهما في أنه شكك وتحفظ على التورق كأداة مالية مقدمة اليوم، واعتبر أنها نوع من التحايل. كل ذلك يؤدي إلى أهمية وجود علماء «متخصصين» وممارسين داخل لجان الهيئات الشرعية للمصارف حيث يتضح وجود تباين واضح في المفهوم الاقتصادي، ووظيفة المال والتطورات الاقتصادية المعاصرة، مما يجعل بعض الأشخاص المنتسبين للجان والهيئات الشرعية يخشى ويضطرب من مواجهة ما يجهله فيلجأ للرأي السريع والسهل وهو التحريم أو ما شابه ذلك. أتأمل ما يحدث الآن من تطورات بالغة الدلالة والأهمية على ساحات الاقتصاد الإسلامي والحراك الحاصل في المنتجات المالية والاستثمارية وأتذكر جلسة عشاء جمعتني بمحافظ لأحد البنوك المركزية لدولة عربية كبرى وهو يقول إن حالة الاقتصاد الإسلامي مؤقتة وواهية، ولا يجب أخذها بجدية، ومضت السنون وحصلت البحرين وتركيا وماليزيا على أجزاء ضخمة من كعكة الاقتصاد والصيرفة الإسلامية على حساب غيرها من الدول، وتذكرت الموقف، وتعجبت من إنكار الرجل وضعف رؤيته، وبالتالي كان من الطبيعي أن يتخبط القطاع المصرفي في فترته كما تبين لاحقا. ووسط كل هذا الزخم يأتي خبر صغير، ولكنه لافت، من ماليزيا، وتحديدا من ولاية كيلانتان، عندما أقدمت الحكومة المحلية بالولاية على تبني الذهب كعملة رسمية وأسلوب تداول معتمد فيها، وتم ذلك بالتعاون ما بين الحكومة المحلية للولاية ومسلم إسباني الأصل وخبير مالي ونقدي اسمه عمر فاديلو. وهو يستعيد بذلك، بحسب رأيه، وسيلة التداول الأصلية المعتمدة لأن ثقة الناس بالعملات الورقية ضعفت، وخصوصا في الدولار الأميركي، وهذا الرأي بالمناسبة ليس إسلاميا فقط، ولكن مرشح الرئاسة الأميركية الأخير رون بول له الرأي نفسه، فهو يشكك وبقوة في سياسات البنك المركزي الفيدرالي ويصفها بالمريبة والمدمرة، ويطالب بالعودة الفورية لنظام الغطاء الذهبي، والحالة هذه، أي حالة الشك في العملات والاقتصاد العالمي، تفسر قليلا النمو المهول في قيمة وأسعار الذهب في بورصات المعادن وبلوغه معدلات قياسية غير مسبوقة.

الذهب هو فارس المرحلة المقبلة و«رمز» التغيير الحاصل على الساحة الدولية، وقد يفتح ذلك كله جدلا مطلوبا ومهما للاجتهاد «التالي» المطلوب في ساحات الاقتصاد الإسلامي الذي يعاني من جمود لا يمكن إنكاره.

[email protected]