المفاوضات وصراعات المتن والهامش

TT

انصبت الرؤى بشأن المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين من واشنطن إلى شرم الشيخ على إحدى مقاربتين؛ الأولى تركز على المسائل المضمونية لتلك المفاوضات من مثل الأمن والحدود والقدس والمياه واللاجئين، باعتبارها القضايا الرئيسة التي يدور حولها الخلاف، والتي يراد التوصل إلى توافقات أو تسويات بشأنها. بينما تركز المقاربة الأخرى على المحيط الاستراتيجي للتفاوض، ومن ضمن ذلك العلاقات الأميركية / العربية، والعلاقات الأميركية / الإيرانية، والعوامل والأدوار والوظائف لسائر عناصر المحيط من مثل ما يجري في المحيط الهندي والصومال واليمن ومضيقي باب المندب وهرمز والعراق وسورية ولبنان.

ولا ينكر الطرفان وجوه التشابك والتبادل والتداخل بين المتن والهامش أو المحيط. لكن أصحاب المقاربة الأولى يرتبون ذلك على نتائج المفاوضات؛ فإن نجحت في مرحلتها الأولى (حتى آخر العام)؛ فإن ذلك ستكون له تأثيرات على الأوضاع في سائر المحيط. وعلى سبيل المثال فإن سورية ستكون أقرب للدخول أيضا في عملية التفاوض. كما أن إيران ستستخدم أوراقها من العراق إلى لبنان لتقييد ح ركة سورية المحتملة، وستحتار تركيا بعض الشيء لكنها قد تفضل تشجيع سورية على الدخول؛ في حين يغلب على حماس في غزة القلق وزيادة وتيرة تبادل القصف مع المناطق المجاورة في فلسطين المحتلة.

أما أصحاب المقاربة الثانية؛ الذين يعتبرون المحيط هو الأساس؛ فإنهم يرون أن معارضي المفاوضات لن ينتظروا النجاح أو الفشل؛ بل سيتحركون من الآن لتعكير الأجواء، وفرض شروطهم على التفاوض أو عدمه. وهكذا، فإن هذا الفريق يرى أن الجبهتين قد نشأتا بالفعل؛ خاصة جبهة المعارضة أو الممانعة أو المقاومة. ويشكل ذلك مشكلة شبه مستعصية لأنصار التفاوض أو معسكر الاعتدال في المشرق العربي وخارجه.

ولأن المفاوضات لا تزال في بداياتها - على الرغم من أنها لا تبدأ من الصفر - فقد يكون من المناسب - رغم التبادل والتداخل بين المقاربتين - بحث تحركات المحيط أو الهوامش، لأنها أكثر وضوحا وعلنية؛ خاصة أنها تحدد لنفسها هدفا واحدا يتمثل في «منع الاستسلام»، والاندفاع من جديد في خط المقاومة. ويمكن متابعة ذلك الآن إلى حد ما في كل من العراق ولبنان. ففي العراق، جرى في الأيام الماضية حديث كثير عن توافق من نوع ما بين الأميركيين والإيرانيين على إعطاء المالكي رئاسة الحكومة من جديد. والذين يرددون ذلك (وقد ذكره المالكي نفسه في حديث لـ«الشرق الأوسط»)، يرتبون عليه نتائج متعددة؛ من بينها أن التواصل بين الأميركيين والإيرانيين لم ينقطع، وأن التفاوض حول العراق قد يصبح جزءا من التفاوض الشامل والقادم بين الطرفين على سائر المسائل. بيد أن هؤلاء يمضون قدما ليستنتجوا أن إيران تتقدم في هذا الملف، مثلما تقدمت من قبل على جبهتي أفغانستان والعراق، عندما كانت الولايات المتحدة في حاجة إلى موافقتها الضمنية على مشارف غزو أفغانستان فالعراق.

ولا يحدث التقدم الإيراني في العراق فحسب؛ بل إنه يحدث في لبنان. فقد صار حزب الله هو الطرف الرئيسي في المعادلة الداخلية منذ 7 مايو (أيار) عام 2008، ثم إنه قرر تظهير تفوقه وترتيب نتائج مباشرة عليه قبل ثلاثة أشهر عندما خاض ولا يزال معركة ضغط داخلية لإبطال المحكمة الدولية بالاتجاه لمناطحة رئيس الحكومة القائمة (وهي بالمناسبة حكومة وحدة وطنية يشارك فيها حزب الله)، وإرغامه على التخلي عن القضاء الدولي. وعندما قام رئيس الحكومة اللبنانية مؤخرا بحركة التفافية للخروج من الاشتباك الذي يحاول الحزب فرضه عليه، في مقابلته مع «الشرق الأوسط»؛ وذلك بتبرئة سورية من الاتهام، والحملة على «شهود الزور» ورميهم بتضليل التحقيق، وتسييس الاغتيال، ما هدأت الساحة السياسية؛ إذ سارع أنصار الحزب ثم الحزب نفسه إلى تطوير الحملة عليه، ومطالبته علنا بالتنكر للمحكمة، لأن ما قاله لم يكن كافيا، ولأن المقصود إبطال مفاعيل المرحلة السابقة كلها، وحشد الجهود لمناطحة إسرائيل من النهر إلى البحر.

وعلى مشارف زيارة الرئيس الإيراني للبنان في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل؛ فإن الحملات الترهيبية والتفكيكية يمكن أن تزداد تهيئة للساحة اللبنانية «لتكون ساحة المواجهة الرئيسية مع التسوية الظالمة والمشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد». وهذا لا يعني فحسب أن لبنان قد يشهد المزيد من الاضطراب السياسي الاستيلائي؛ بل إنه يعني وقوع سورية بين الرهانين العراقي واللبناني. فقد وقفت سورية منذ نحو عام ضد المالكي علنا، وتبادلت معه ومع حكومته الاتهامات، ودعمت خصمه إياد علاوي في الانتخابات. لكن منذ أسبوعين عاد التواصل بين الطرفين، وجاء المالكيون إلى سورية، وقد تضطر دمشق لقبول ترؤسه للحكومة العراقية المقبلة أو التظاهر بذلك. ومن الطبيعي، ووضعها هكذا، أن تظل أقرب إلى وجهة نظر الحزب وأنصاره على الساحة اللبنانية؛ فتصبح بذلك أقرب إلى تجنب التفاوض، على الرغم من زيارة المبعوث الأميركي ميتشل لها أمس، وأن مبعوثين أميركيين آخرين لا يكادون يغادرونها منذ عدة أسابيع.

وقبل أيام زار مبعوث للرئيس الفرنسي ساركوزي دمشق، ولا شك في أنه تحدث إلى السوريين أيضا - كما تحدث إليهم هوف وميتشل - عن مجريات التفاوض، وعن ضرورة انضمام سورية إليه في مرحلة لاحقة. وتأتي الفائدة والضرورة من أن التفاوض في مرحلته الراهنة سينصب على الحدود والأمن. وفي كلا الموضوعين؛ فإن سورية هي المستفيد البارز، وربما قبل فلسطينيي محمود عباس! لكن هل تصغي دمشق لنداءات الانضمام أم الممانعة؟ الأرجح أن السوريين الآن يأملون أن يفشل التفاوض، حتى لا يحرجوا في اتخاذ خيار مع هذا الطرف أو ذاك، على الرغم من الوعود الأميركية، التي يواجهها الوعيد الإيراني.

ما معنى المتن والهامش في السياقات التي ذكرناها؟ تصبح الموازنة ضرورية في حالتنا هذه، لأن هناك غلبة لعوامل ودوافع معارضة التفاوض والتسوية في المحيط؛ بينما لا تبدو العوامل الداخلية أو اعتبارات المتن وضاءة وواعدة. والمعني بالمتن السلبي هنا الجانب الإسرائيلي. فالحكومة الإسرائيلية الحالية لم تحسم أمرها حتى في موضوع الدولتين، بخلاف حكومة أولمرت السابقة. وتضاف إلى ذلك، بعد هذا الأمر المبدئي، قضايا الحدود والقدس واللاجئين، والنزاع الدائم بشأن المستوطنات. وهكذا يبدو الإسرائيليون مع الحكومة الحالية أقرب للمراوغة والمطاولة وعدم التحديد السريع. بينما لا يتحمل فلسطينيو محمود عباس مفاوضات طويلة، تضرب ما تبقى من سمعتهم. ولا يفيد في شيء هنا أن نستنتج أن المتطرفين في المتن والهوامش يلتقون موضوعيا إذن على هدف عرقلة التفاوض على التسوية. فالمتطرفون المتعاكسو الأهداف يلتقون غالبا وإن من دون قصد؛ إذ في حال فشل المفاوضات بسبب العجز الإسرائيلي عن اتخاذ القرارات؛ فإن الممانعين الإسرائيليين سوف يعتبرون أنفسهم منتصرين، وكذلك حزب الله وحماس. وفي حين سيعتبر المتطرف الإسرائيلي نفسه فعالا ومؤثرا فحسب؛ فإن «المقاوم» العربي سوف يرتب على ذلك نتائج قد تهز الاستقرار، وتزيد من شرذمة المجتمعات.