أحزان العقل العربي

TT

... وكأن شجرة العقل العربي يبست غصونها واصفرت في لحظة واحدة!

ها هو واحد من «حكماء» المسلمين الكبار يذوي ويرحل عن عالمنا. المفكر الجزائري الفرنسي محمد أركون، أستاذ الإسلاميات، وأحد من أخضع «عقلنا» للتشريح والدرس، وكان أكثر جرأة من محمد عابد الجابري، وأقدم زمنا.

أركون لا يُلخّص ببضعة أسطر، إنه مسيرة عمر، وملحمة فكر، وكان كتابه «تاريخية الفكر الإسلامي» من أوائل الكتب التي فتحت عيني على آفاق أخرى في الرؤية وتجريب طرق أخرى في المشي بين أروقة العقل والتاريخ، وكأنك تتنفس لأول مرة فوق صخرة شاهقة واقفة على كتف المحيط الأزرق الكبير.

زميلنا في هذه الجريدة، المثقف التنويري النشط، هاشم صالح، له فضل كبير في تعريف قراء العربية بأعمال أركون، الذي كتب بالفرنسية، ولكنه كان حريصا على سرعة نقل أعماله إلى العربية، أحيانا بعد أشهر من صدور العمل. وكان هاشم صالح هو المترجم «الأول» وليس الوحيد كما نبهنا. وقد ترجم عنوان كتابه سالف الذكر «تاريخية الفكر الإسلامي» بهذه الصيغة عوض الصيغة الأصلية «نقد العقل الإسلامي» مراعاة للخواطر العامة التي ستستقبله باللغة العربية.

رحيل أركون يأتي بعد فترة وجيزة من رحيل المفكر المصري التنويري نصر حامد أبو زيد، والمغربي الكبير محمد عابد الجابري. وغيرهما.

الميزة، إن كان ثمة ميزة للغياب المادي، أنه بوفاة هؤلاء الأعلام، تستيقظ الرغبة لدى البعض في قراءة أعمالهم والتفكر في اجتهاداتهم، ومعرفة ما هو الجديد أو المثير الذي فعلوه أو قالوه حتى يصبحوا مهمين ونجوما. وهذه ثمرة جيدة، في عصر شحّت وضمرت به عادة القراءة الجادة، وعسى أن يكون هذا النوع من الفضول، مفيدا ومثمرا وجالبا لشريحة جديدة إلى عالم الفكر والنقد الحي المتحرك بدل الإقامة في مرابع المكرر من الكلام، والتوطن في خيام السكينة.

ليس ضروريا الاتفاق مع هؤلاء فيما توصلوا إليه.. على العكس، المطلوب هو الانغماس فيهم للخروج منهم! فهم لم يكتبوا إلا من أجل التغيير.

بعد وفاة الوزير والأديب السعودي غازي القصيبي، مع الفارق الواضح بينه وبين أمثال أركون والجابري طبعا، لاحظت إقبال كثير من القراء السعوديين على كتب الراحل، القديم منها والجديد، حتى تصدرت كتبه أرفف المكتبات السعودية، وهذا شيء حسن، وقد يكون من أواخر آثار هؤلاء الكبار فينا بعد رحيلهم.

مشكلتنا كعرب ومسلمين، قلة القراءة، والركون إلى تكرير ما قيل لنا، والذعر من التغيير ومن يدعونا إليه. لذلك تجد في التصورات الشعبية (هذه التصورات مدعومة من بعض المؤسسات السلطوية العامة طبعا) نوعا من تنميط شخصية المثقف والتخويف منه، باعتباره يقول كلاما مريبا أو يدعو إلى تغيير ما قاله الآباء والأولون.

من أجل ذلك كله كانت المهام التي تصدى لها أركون والجابري وأبو زيد، ومن ماثلهم على اختلاف مناهجهم ونتائجهم، مهاما صعبة تحملوا من أجلها الكثير من الطعن والضرب من الأمام.. ومن الخلف.. ولكنهم صمدوا إلى الشوط الأخير.

ليس المفجع أن يرحل عنا هؤلاء بأجسادهم، بل أن ترحل أفكارهم وأسئلتهم عنا، حتى ولو تجاوزها الآتون منا بعد حين.

[email protected]