ما أكثر (ما طرت بالعجّة)

TT

هناك وصف خليجي لكل من يسارع ويصدّق مشهدا وخبرا ويأخذه كقضية مسلمة لا تقبل الشك أو المجادلة، مثل ذلك الشخص نقول عنه تندرا إنه: (يطير بالعجّة)، والعجّة هي الهواء السريع المغبّر.

ومن قراءاتي لإحدى النساء عن ذكرياتها في مثل هذه المواقف أختصر لكم الآتي: أنها عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، دق جرس التليفون في منزلهم، وأجابت عليه والدتها.

وتقول البنت: سمعت والدتي تقول لمن يحدثها: أنت تدعوني أن أحضر وأختار ما أشاء من فراء (المنك)؟!، هذا غريب، فقد اشتريت معطفا من هذا النوع منذ شهرين فقط.

وسكتت برهة ثم سألته: أواثق أنت أن الذي طلب هذا هو مستر (رالف مارش)؟!

ويبدو أن البائع قد أكد لها ذلك، لأنني لاحظت أن سماعة التليفون في يدها قد بدأت تهتز، وملامح وجهها ولونها قد بدأت تتغير، وردت عليه بصوت متقطع قائلة: حسن، حسن جدا، سأطلب إليه أن يتصل بكم، فلا علم لي بشيء من هذا، ثم وضعت السماعة وجلست صامتة برهة طويلة، ثم أسرعت إلى غرفتها، وعندما مرت بي رأيتها تبكي.

فلما عاد والدي في المساء من عمله، سمعت والدي يقول لها في غرفة النوم: هذا هراء لم أطلب أي معطف من فراء المنك، واستغربت أنا في قرارة نفسي من إنكار والدي.

وانطويت على حالي مصدومة بأبي الذي كنت أضعه مثلا أعلى بالنسبة لي، غير متخيلة أنه يعمل علاقة مع امرأة أخرى من وراء ظهر أمي التي أصبحت في حالة يرثى لها.

وكادت الريبة والشكوك تدمر بيتنا، خصوصا أن والدتي أصبحت عصبية جدا، ومهملة لشؤون البيت الذي أخذت الكآبة تلفه من جميع الجوانب.

فوالدتي أكثر الوقت تظل صامتة لا تكلم أبي، وإذا طلبت أنا منها شيئا لا ترد علي إلا بالشتائم، وظللنا على هذه الحالة فترة غير قصيرة إلى أن مرض والدي وتوفي بحسرته.

وبعد أكثر من سنة على وفاته اكتشفنا هذا (اللغز) بالصدفة، وذلك عندما مررنا بشارع بعيد عن منزلنا يبيع معاطف الفرو، فاستغللتها فرصة وتركت والدتي في الخارج، وتجرأت وسألت البائع: هل اشترى منكم شخص يقال له: (رالف مارش) معطف (منك) في التاريخ الفلاني؟!، فقال لي: نعم، فرجوته أن يعطيني أوصافه وعمله وعنوانه، فلما فعل، وإذا هو رجل آخر يحمل نفس اسم والدي ويسكن في منزل يبعد عنا 40 ميلا، وثبت أن الغلطة هي من عجلة الكاتب حين بحث عن الاسم في دليل التليفونات.

والغريب أنه كاد يتكرر معي ذلك الموقف عندما كنت مخطوبة، حين ذهبت مع صديقة لي إلى أحد (المولات)، وبينما كان باب المصعد يقفل لمحت خطيبي يتناول المرطبات في مقهى المول مع سيدة أنيقة، فغلى الدم في عروقي لأنه كذب علي وقال إنه مسافر في ذلك اليوم، غير أنني عندما تذكرت (حسرة) والدي سيطرت على أعصابي بجهد كبير.

وبعد يومين عاد خطيبي، وقبل أن (أنط) في وجهه وأبدأ بمحاكمته وإذا به يقول لي بكل بساطة وبراءة: إنه قبل سفره بثلاث ساعات قابل قريبة له لم يلتقها منذ مدة وتناول معها المرطبات، وهو قدم لها دعوة مع زوجها لكي نتناول العشاء معا يوم غد.

وتختم كلامها قائلة: ساعتها تنهدت (وفشّيت)، وكأن ماء باردا قد صب على رأسي.

[email protected]