البرهان الواقعي.. على أن العالم ليس «دار حرب»

TT

وقوع الأحداث ليس بملكنا، فليس لأحد سلطة مطلقة على التصرفات البشرية حتى وإن كانت هذه التصرفات لا تعجبنا. من هنا فإن وظيفتنا - تجاه هذه الأحداث - هي: أن نتعلم منها - دوما: ما نحسبه تعزيزا وتجلية للمنهج الصحيح في التفكير.. ولقد أبصرنا في مسألة الشروع في حرق المصاحف دروسا نافعة، نصطفي منها ثلاثة:

1) الدرس الأول: إن هذا العالم الإنساني الذي نعيش فيه ليس «دار حرب» معادية مقاتلة، ببرهان أنه لم يكد ذلك القس العجيب يعلن عن نيته حتى ماج العالم بموجة من الغضب والاشمئزاز.. ففي أميركا نفسها، رفضت الكنائس الأميركية المعتبرة هذا التصرف الأحمق.. ثم صدرت إدانات لهذا التصرف من الرئيس الأميركي باراك أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، وقائد القوات الأميركية والأطلسية في أفغانستان ديفيد بترايوس.

وقد يقال: إن الأميركيين فعلوا ذلك حرصا على جنودهم المنتشرين في العالم الإسلامي، وحرصا على مصالحهم الحيوية فيه، وإنهم لم يفعلوا ذلك احتراما للقرآن وقداسته.. ونقول: وليكن.. فالمهم في الموقف هو «العقلانية» المناهضة للفعل الشرير المزمع، سواء كان الدافع احتراما للقرآن أو حرصا على مصالحهم الحيوية والوطنية.. وليس من التفكير الصحيح أن تشترط أن يؤيدك الناس بذات البواعث والمقاصد التي تؤمن بها.. وفي سياق المناهضة العالمية رأينا الفاتيكان والاتحاد الأوروبي ومسيحيين آخرين كثرا في هذا العالم، يفتحون أفواههم بإدانة هذا التصرف الشاذ.. وهذه المواقف تبرهن على أن عالمنا الإنساني هذا ليس «دار حرب»، بمعنى أنه يحاربنا «في الدين». فالواقع يقول: إن هؤلاء البشر الذين لا يؤمنون بالإسلام، وقفوا موقفا ينكر - بهذا الباعث أو ذاك - التطاول على القرآن ومحاولة تدنيسه.

وللواقع حكمه القوي في تحديد العداوات، وتعيين الصداقات.. وإنه لمن الافتئات على حقوق هذه الأعداد الهائلة من الناس وصف جغرافيتهم البشرية بأنها «دار حرب»، كما أنه من الخطأ في التفكير - تصورا وحكما - تعميم تصرف القس المهووس بأنه يمثل المسيحيين كافة.. ففي مدينة هذا القس نفسه، طلب القائمون على كنيسته من مصنع للملابس أن يطبع على «قمصان مخصوصة» عبارات معادية للإسلام والمسلمين، فرفض المصنع هذا الطلب، وطبع بدلا منها عبارات تدعو للحب والتسامح والتعايش بين الأديان.. والقائمون على المصنع مسيحيون لا مسلمون.. مسيحيون فعلوا ذلك إيثارا لقيم التسامح والتعايش، ورفضا لغرائز الكراهية والحقد والعدوان.. فكيف يعمم على هؤلاء الناس المحترمين حكم عام، وهو أن جميع المسيحيين يجب أن يدانوا في موضوع محاولة حرق القرآن؟!

ومما يتصل بهذه النقطة أن على المسلمين - ولا سيما الغيارى على الدين منهم - أن يعلموا أنه مهما كان الرأي في السياسات الأميركية الجارية، فإن للأمة الأميركية قيمها الأصيلة في التعايش بين الأعراق والأديان.. مثلا: لقد قال الرئيس الأميركي أوباما: «إن أميركا لن تكون أبدا في حرب مع الإسلام».. فهذا الكلام له «سند دستوري» من صميم الدستور الأميركي. فقد نص التعديل الدستوري الأول (الذي تم إقراره عام 1791) على ما يلي: «لن يصدر الكونغرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته».. وهذه هي «العلمانية المحايدة»، أي التي لا تتبنى دينا، ولا تعادي دينا.. خلاصة هذا الدرس الأول أننا لسنا في عالم يوصف بأنه «دار حرب».

2) الدرس الثاني المستفاد من حادثة الشروع في حرق المصحف هو «التوازن الفكري» في استقبال الأحداث، وتقديرها (وصفا وحكما).. وهو درس يرتقي إلى مرتبة «الضرورة».. لماذا؟ لأن من يستقرئ تاريخ التفكير البشري يلتقي - ولا بد - بآفتين وبيلتين أفسدتا هذا التفكير سواء كان فلسفيا أو علميا أو اجتماعيا أو أدبيا أو دينيا أو سياسيا أو إعلاميا: الآفة الأولى هي «التهويل»: تصوير الشيء أو القيمة أو الحدث في أضعاف حجمه الحقيقي، على أنه في حقيقته الموضوعية لا يبلغ هذا المبلغ من التصوير المضخم المكبر.. والآفة الأخرى هي «التهوين»: التهوين أو الحط من قدر أو حجم الشيء أو الحدث، في حين أنه «كبير» في ذاته.

ولقد تأثر التفكير في مسألة الشروع في حرق المصاحف بهاتين الآفتين.. فهناك من هول تهويلا يوشك أن يكون نعيا لوجود المصحف وبقائه! وهو تهويل يتناقض مع عقيدة أن الله حافظ كتابه لا محالة، وهو حفظ يؤكده النص القرآني: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». كما أكده الواقع التاريخي المطرد الذي امتد منذ نزول القرآن وإلى يوم الناس هذا. فالقرآن على مدى 1441 عاما هو هو كما أنزل: محفوظ في الصدور أولا وفي السطور ثانيا، بمدوده وغننه وقلقلاته وسائر مخارج حروفه.. وهناك - في الطرف المضاد - من هون من مسألة الشروع في حرق المصاحف تهوينا تنقصه الدقة والأمانة، كما ينقصه منهج تفكير يضع الأمور في صورتها الصحيحة المضبوطة.. وهذا الفريق يظلم نفسه بتعريضها لظنون الاتهام بأنهم أكبر من القرآن والإسلام وأكبر من عقلاء العالم الذين رأوا في الحدث: ما يثير الفتنة بين أتباع الديانات، وما يعزز فرص الإرهاب، وما يهدد السلام العالمي.. ثم هم يظلمون أنفسهم من خلال ظلم «الحقيقة الموضوعية» التي ينبغي أن تقدم للرأي العام كما هي، دون تهويل ولا تهوين.. وهذا التقديم هو أول وظائف الإعلام وأرقاها وأجداها.. هذا هو الدرس الثاني المستنبط من هذا الحدث.. «ضرورة التوازن الفكري» في تلقي الأحداث وتقويمها والتعبير عنها.

3) الدرس الثالث هو نفي «المعاملة بالمثل» في هذه المواقف.. فلقد دعا مسلم أحمق إلى تنظيم حملة عالمية لحرق الإنجيل. ولربما استشهد هذا المجنون المهبول بقوله تعالى: «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به»، وهذا تفكير منحرف معوج وتأويل فاسد للقرآن.. فالمعاملة بالمثل ليست على إطلاقها. وطالما ضربنا مثلا من قبل بأنه لو أن فاجرا اعتدى على عرض امرئ مسلم، فإن منهج الإسلام لا يجيز للمعتدى على أخته أن يفجر بأخت الفاجر، ذلك أن الإسلام يحرم الفجور والزنا بإطلاق، في كل حال، وعلى أي حال، وليس هناك قط ضرورة - مهما كانت - تلجئ إلى ذلك.. ومن هنا فإن المثلية في التعامل منفية في الموقف من الإنجيل، بمعنى الإقدام على إحراقه كرد فعل على حرق المصحف.. وموانع حرق الإنجيل صارمة ومطردة نذكر منها: الإيمان بالإنجيل وبحامله وداعيه: المسيح عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عظم التوراة وآثرها على نفسه «والتوراة هي وعاء الإنجيل وأصله»، فقد ورد أن نفرا من اليهود أتوا النبي: رغبة في تحكيمه في نزاع بينهم، فأتاهم في بيت المدارس فعرضوا عليه قضيتهم فوضعوا للنبي وسادة فجلس عليها، ثم قال ائتوني بالتوراة فأتي بها فنزع النبي الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، وقال: «آمنت بك وبالذي أنزلك».. نعم. فلقد نزل على النبي قوله تعالى: «إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة». وقوله: «وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب» أي كتاب. وكل كتاب أنزل من عند الله.. وهذا هو الدرس الثالث المستنبط من حادثة الشروع في حرق المصحف، وهو استنباط خليق بأن يسهم في تصحيح طرائق التفكير في تلقي الأحداث وتقديرها وتقويمها والحديث عنها.