من حسن البنا إلى خالد الشيخ: الطريق المسدود

TT

في الأسبوعين اللاحقين لانقضاء شهر رمضان خاض العرب والعالم في قضيتين، الأولى هي التعليق الموسع على مسلسل «الجماعة» الذي عرض على شاشة التلفزيون، وحكى جزئيا تاريخا دراميا لبداية حركة الإخوان المسلمين في مصر وتطورها، تابعته النخبة والعامة على السواء. والثانية هي التذكير باعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) في سنتها التاسعة، الذي وقع أيام عيد الفطر. كلا الحدثين مرتبطان.

حركة الإخوان التي خاض المسلسل في تاريخها وتاريخ زعيمها حسن البنا لها علاقة ولو من بعيد بـ11 سبتمبر، حيث إن خالد الشيخ محمد، الذي ولد في الكويت من أب قادم من بلوشستان يعمل مؤذنا، ترعرع في مقتبل شبابه في كنف الفرع المحلي لحركة الإخوان في الكويت، ثم تطور ليصبح العقل المدبر لتلك الكارثة، التي ما زال العرب والمسلمون يدفعون فواتيرها الباهظة. نقطة الارتباط هي فكرة تغير العالم كما يهوى البعض بعيدا عن قراءة الواقع، وبالعنف إن أمكن!

ما ناقشته وسائل الإعلام لاحقا حول مسلسل «الجماعة» بدا في معظمه سطحيا، هل أنت متعاطف مع الحركة، بعد مشاهدة المسلسل أم نافر منها؟ هل رد فعل حسن البنا للأحداث - كما ظهرت في المسلسل - طبيعية أم مبالغ فيها؟ مثل هذا التناول كان بعيدا عن الجوهر. إلا أن المسلسل قد أعاد من جديد مناقشة قضية قديمة، ما زالت تؤثر اليوم في مجرى الأحداث..

حركة الإخوان المسلمين في جوهرها هي حركة ليست جديدة، لا في الفكرة أو حتى التنظيم. في تاريخنا العربي والإسلامي. كثيرون - مصلحون ومغامرون - جربوا استخدام الإسلام كوسيلة للوصول إلى السلطة - في نظر بعضهم قد يؤدي ذلك إلى صلاح المسلمين. حسن البنا لم يكن استثناء، بل هو أعاد صياغة الفكرة دون كثير من التطوير.

إقبال مجاميع من المسلمين على الانضمام للحركة في السابق واللاحق، وانتشار فروعها في معظم الدول العربية، يعني أن هناك طلبا اجتماعيا على الفكرة لا ينكر، إلا أن التنفيذ الخاطئ وردود الفعل المبتسرة محليا وعلى نطاق عالمي، كشف الأخطاء فتضاءل الأنصار، حتى قيل اليوم إن أكبر تجمع (إسلامي سياسي) هو تجمع الإخوان الخارجين من الجماعة.

من الثابت أن الحركة أثرت في الكثير من الحركات السياسية المتكئة على الإسلام، فهناك تلاقح مثبت تاريخيا، بين جذور الثورة الإيرانية والإخوان حصل في النجف في ستينات القرن الماضي، كما أنها أثرت في معظم الحركات الإسلامية السياسية، صغيرها وكبيرها، شرقها وغربها.

لا يكابر أحد من جهة أخرى، عند القول إن الإسلام يحمل مبادئ إنسانية سامية، وهو أيضا كلي لا جزئي، بمعنى أن الابتسار والانتقاء من النصوص وتضييق تفسيرها، يسهل الحشد والتجنيد في ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة، إلا أنه في غياب المناقشة الحرة والفهم لمجريات العصر، يتحول الفرد أو الجماعة إلى شياطين، يمكن جمعهم ويصعب تفريقهم، ويغوص الجميع في مناقشة الفرعي والهامشي، دون أفق مستقبلي. الفكرة المركزية لدى الجماعة هي الطاعة العمياء ويُسحب من جدول عمل الجماعة النقاش الموضوعي الحر، لذلك أصبحت إحدى عقبات التنظيم – أين ما حل – إما الطاعة العمياء أو الانشقاق التام والمعادي، ومن هنا حصل هذا التفريخ المرضي للجماعة بأسماء مختلفة، كـ«القاعدة» وأخواتها.

عدم فهم العصر أو عدم القدرة على استيعاب المتغيرات جعل الجماعة، أين ما نبتت، غير قابلة للتطور، تغييب الزمان والمكان في المعاملات في فكر الجماعة جعلها تفقد علاقتها بالواقع، لديها ما ترفضه، ولكن ليس لديها ما تبنيه في ضوء احتياجات الناس المتغيرة. وسوف تبقى وتفرعاتها تخوض في الهوامش وتطمس الفروقات، وتنجذب إلى المركزية الشمولية.

حسن البنا ارتكب كقائد في المسيرة عددا من الأخطاء، ربما لعدم فهمه الفهم الصحيح للعمل السياسي المطلوب، أو ربما لعدم قراءته لمجتمعه بشكل واقعي. لقد تجاوز حسن البناء وأيضا خالد الشيخ وآخرون النصيحة السياسية الذهبية القائلة «حتى لو كنت على حق وجب أن تكون ذكيا». والذكاء هنا ليس ذكاء المناورة، فقد أحسن البنا الكثير منها، بل الذكاء في فهم المحيط الاجتماعي - السياسي، والتواؤم معه. يأخذ البعض على حركة الإخوان المسلمين فيما بين الحربين العالميتين وبعدهما، أنها لجأت إلى العنف، وهذا ليس أكبر أخطائها. العنف أو شبه العنف كان ممارسة لكثير من الجماعات شبه المنظمة، فالشيوعيون والوطنيون في مصر وقتها حاولوا ذلك.

جمال عبد الناصر في كتاب «فلسفة الثورة» يخبرنا عن محاولات اغتيال سياسيين، ويؤكدها أنور السادات في كتابه «يا ولدي هذا عمك جمال»، وأيضا في كتاب «البحث عن الذات». إلا أن الدروس التي كان من الواجب استيعابها لم تستوعب، وظلت وسائل الإخوان أو من تفرع عنهم بعد ذلك ترى في العنف مخرجا بديلا للعمل السياسي طويل النفس.

الخطأ الاستراتيجي الأهم، كان وما زال، هو البعد عن قراءة المجتمع الذي تنشط فيه الجماعة. خالد الشيخ فهمه للغة العربية ضعيف، كما نشرت مؤخرا مجلة «النيويوركر»، التي بحثت بعمق عن خلفياته، فهم اللغة العربية أساس لفهم الإسلام. كما أن فهمه للإسلام مجتزأ. لكنه ومن معه وبالإسلام الذي يفهمه، توسّل العنف الكارثي.

نتائج أعمال خلط السياسة بالدين - إن لم تحصل على تأييد واسع وتقرأ تاريخ المجتمع وحركته وتواكب العصر - تؤدي إلى كارثة. السودان اليوم على شفا انفصال تاريخي، جذور هذا الانفصال تكمن في قوانين سبتمبر 1982 التي أقنع بها حسن الترابي فخورا، جعفر النميري وقتها وهو في ضيق سياسي، الالتجاء إلى فقه الإضرار يحجب فقه المواءمة والمصالح المرسلة.

الأصوليون بألوان الطيف المختلفة، لا يحسنون قراءة الواقع، ينظرون برهاب إلى الآخر المختلف، ويجتهدون لعزله وتهميشه. أي أصولية وبأي شكل تدثرت لا تقرأ الواقع كما يجب أن يقرأ، هي تتمسك فقط بالأفكار المثالية المنبتة عن الواقع، وتبقى - حتى لو نجحت إلى حين - بعيدة عن تفهم حاجات الناس. الأصولية الشيوعية في الاتحاد السوفياتي السابق، انتهت كما نعرف جميعا شذرا مذرا، لأنها ببساطة انقطعت عن الواقع، وعاشت في أوهام نظرية وصلت إلى إفقار وعزل وتهميش وقمع الجمهور الأوسع.

إيران يتوقع العاقل أن تصل إلى نفس النتيجة، لا لأننا نحب أو نكره، ولكن بسبب انقطاع الحوار، وتهميش الآخر وشيوع الأوهام، والادعاء أن من هم في السلطة يملكون الحقيقة المطلقة. إيران متجهة إلى تلك النتيجة السلبية، لأن قواها المسيطرة اليوم تعزل من يريد أن يتعامل مع الواقع، وتعزز من يريد التعامل مع الفكرة مجردة، بصرف النظر عن الأضرار التي يمكن أن تتراكم على مجتمع مثل المجتمع الإيراني، حيوي صاحب تجربة تاريخية حضارية مشهودة. حقيقة الأمر أن معظم من تصدى للإحياء افتقد المواءمة مع الزمان والمكان، وذلك عوار منهجي وفكري مقيم. فوق ذاك الكثير منهم لم يقرأ بعمق التجربة الإسلامية، ولم يتعرف - على سبيل المثال - على فكرة «المؤلفة قلوبهم» أو غيرها من المبادئ التي سهلت انتشار الإسلام في أصقاع مختلفة من العالم. غلبت القراءة المبتسرة والسطحية. حسن البنا الرجل المؤسس في التاريخ الحديث كان مدرسا إلزاميا للأولاد، وخريج دار العلوم. هذا لا يعني أنه لم يكن منظما فائق القدرة، إلا أن إدراكه وقراءته لم تتسع إلى فهم المجتمع المصري التعددي ومتطلبات الزمان والمكان، كما لم تستطع الحركة - بعد البنا - أن تدرس دورها في مجتمع تعددي مرتبط بالعصر، أو تطلع على النضال الوطني المجاور في الهند أو آيرلندا. السلبيات تلك أوقعت الحركة في مأزق.

وفي القرن الواحد والعشرين مع تطور هائل في وسائل الاتصال، فإن المأزق يكبر ويتسع لمثل تلك الحركات، ويورثنا هذه الفوضى التي تكاد تضرب في أي مكان وفي أي وقت. مسلسل طويل من المرحوم حسن البنا إلى خالد الشيخ محمد في غوانتانامو، وما زال البعض يدور حول نفسه.