العراق: تركز الصلاحيات.. أم تركز الطموحات

TT

في السنوات الماضية كان النقد الذي يوجهه البعض للدستور يستند إلى كونه شديد اللامركزية، بل وهناك من اعتبره مهددا لوحدة البلد بسبب إقراره للفيدرالية، على الرغم من أن هذه الأخيرة لم تطبق عمليا إلا في حدود إقليم كردستان، واستند هؤلاء المعترضون في موقفهم على تراث فكري متجذر في العراق والمنطقة لا يرى إمكانية للحفاظ على الوحدة الوطنية إلا عبر مركز قوي ومهيمن يهمش الأطراف، وتلك كانت العقلية السائدة في العالم الثالث في ظل مرحلة بناء الدولة الوطنية وهيمنة الآيديولوجيات الثورية والحاجة لفرض الوحدة من أعلى على مجتمعات تتنازعها الولاءات القبلية والدينية والمناطقية، وهي العقلية ذاتها التي ورثتها غالبية أطراف النخبة السياسية في العراق التي لم تكن قادرة على تصور أي مشروع تغيير أو إعادة بناء للدولة العراقية إلا عبر السيطرة على السلطة المركزية وتكرار الوصفات التقليدية ذاتها التي انتهت بنا إلى ظهور أنظمة سلطوية تحول همها من تحقيق التغيير الاجتماعي إلى السيطرة على المجتمع وكبت حراكه الطبيعي للبقاء في السلطة كغاية عليا.

لقد كان عراق القرن العشرين مركزيا بشكل خانق، كل مقاليد السلطة والموارد تراكمت في بغداد، وصارت السياسة والاقتصاد والثقافة كلها تدار من بغداد، ففقدت المدن الأخرى أي حيوية أو متنفس غير ما تتلقاه من فتات ترميه العاصمة التي صارت محط طموح وأنظار كل حالم أو متطلع إلى مستقبل يتجاوز الخيارات الضيقة لحيزه المحلي، وبلغت الهجرة إلى بغداد وما تبعها من أزمة سكن حدا حرك الهواجس الأمنية للنظام السابق، مما دفعه إلى أن يحصر حق التملك بالعاصمة في شريحة معينة من ساكنيها، بدلا من البحث عن حل جذري لدوافع الهجرة إليها.

الطبقة السياسية الجديدة ورثت طريقة التفكير نفسها، وباتت تتصرف وفق قاعدة أن من يهيمن على بغداد يهيمن على العراق، ولذلك كان الصراع الأمني في بغداد الأشد حدة وعنفا، لأن البعض ما زال يمتلك ذهنية «البيان رقم واحد» ويعتقد أن السلطة هي قصر جمهوري وإذاعة في وسط العاصمة من يسيطر عليهما يسيطر على العراق. في حين بدت القوى الكردية أكثر وعيا بما تريد وتستند في مواقفها إلى معيار واضح هو المصلحة الكردية، لم تفرقها نزاعات أو تنافسات حزبية عن أن تترجم تصورها لماهية العراق الجديد دستوريا، وبالتالي تعمل على تشكيل نظام سياسي حساس تجاه مخاوفها المتراكمة من استبداد المركز، وقدر من الضمانات بما يحول دون تغول المركز مجددا. ولذلك كان النظام الجديد يمنح الأقاليم والمحافظات سلطات واسعة لم يعرفها العراق في تاريخه منذ العصر العثماني؛ فلأول مرة يتم تعيين محافظ المدينة من مجلس منتخب وليس عبر مرسوم ملكي أو جمهوري من بغداد، ولأول مرة تعين وتشرف المجالس المحلية على أداء المؤسسات والدوائر في محافظاتها. بالطبع، كان التطبيق مشوها كما هو في أي مفصل آخر من العمل الدستوري والمؤسساتي، لكنه تشويه يعنى بضحالة الطبقة السياسية أكثر منه بخلل الدستور.

الآن صار بعض السياسيين يتبنون الرأي القائل بأن مشكلة الدستور تكمن في الصلاحيات الواسعة لرئيس الوزراء. الغريب أن كثيرين منهم كان بالأمس القريب من أشد المدافعين عن المركزية والمنتقدين للدستور الذي منح سلطات واسعة للأطراف. ولذلك تفسيران؛ أحدهما متفهم، والآخر متشكك. فأما التفسير المتفهم، فإنه يرى أن وعي الطبقة السياسية بدأ في التغير بحكم التجربة وأنها أصبحت أكثر إدراكا للحاجة إلى البحث عن وصفات جديدة للتعامل مع حاجات العراق. وأما التفسير المتشكك الذي أميل إليه، فيفترض أن كل من لا يستطيع الحصول على منصب رئيس الوزراء له أو لحلفائه يبدأ الحديث عن ضرورة تقليص صلاحياته، لأن المشكلة في جوهرها هي تنافس على أكبر قدر من السلطة والصلاحيات لقولبة النظام الجديد وفق رؤية ومصالح من يهيمنون على مركز القرار، فإن تعذر ذلك، فلا بد من العمل على إضعاف هذا المركز قدر الإمكان.

مع ذلك، فالمشكلة لا تكمن في مشروعية السعي للحد من صلاحيات رئيس الوزراء، بل في أزمة الثقة المتجذرة داخل الطبقة السياسية التي تجعل أفرادها يتعاملون مع النظام السياسي وطبيعة الصلاحيات والمسؤوليات بقدر عال من عدم الالتزام؛ فبدلا من أن يكيفوا طموحاتهم مع ما يفرضه الدستور، فإنهم يريدون تكييف الدستور مع تلك الطموحات، غير أن تلك الطموحات متغيرة بدورها تبعا لتغير موقع الشخص أو حزبه في العملية السياسية، وبالتالي، فإن الجدل لا يدور حول ما هي الصيغة الأمثل للنظام السياسي ليكون مستقرا وللحكومة لكي تكون فعالة، بل ما الصيغة الأمثل لإرضاء جميع الطامحين الذين لا يثقون بإمكانية أن يقبلوا بوجود من يمتلك مسؤوليات وصلاحيات أكثر من غيره؟ فإذا ما تم توزيع الصلاحيات ما الذي سيضمن أن طبقة سياسية مفككة وفاقدة للثقة كهذه ستكون قادرة على العمل كفريق منسجم؟ ومن يضمن أن الحكومة لن تتحول إلى عدة حكومات متصارعة وإلى دولة داخل الدولة؟ المشكلة ليست في الصلاحيات، بل في عقلية التربص وفي الثقة المفقودة التي لا يمكن إيجادها عبر أي صيغة مؤسساتية لأنها نتاج منطق آخر غير منطق المؤسسة.