(القهرمانة) وابنة الخامسة عشرة

TT

إنني أقتطع من وقتي ثلاث ساعات يوميا إما بتدليع نفسي وإما بتسليتها، وتلك التسلية إما أن تكون حميدة وإما غير حميدة، واختياري يخضع لمزاجي في ذلك الوقت، فإذا كان متعكرا أو سوداويا اتجهت للتسلية الحميدة، وإذا كان صافيا ومصهللا اتجهت للتسلية غير الحميدة.

أمس عندما حان وقت التسلية اكتشفت أن مزاجي كان محايدا فلا هو بالمتعكر ولا الصافي، وهذا هو (أبيخ) مزاج من الممكن أن أتعامل معه، فوقعت في (حيص بيص) مثلما يقولون - أي أنني وقفت محتارا وعاجزا عن اختيار القرار الصائب أو الملائم.

وكان أمامي عدة خيارات: إما أن أسبح، وإما أن أقرأ، وإما أن أحل الكلمات المتقاطعة، وإما أن أسمع الأغاني، وإما أن أعاكس وأدردش بالتليفون، وإما أن أحط رأسي على المخدة وأبدأ بفاصل من الأحلام التي يحبها قلبي.

واستقر رأيي أخيرا على أن أقرأ في أول كتاب أتناوله، وفعلا اتجهت إلى مكتبتي وسحبت من الرف كتابا لا أدري ما هو، وفتحته من المنتصف كيفما اتفق، وإذا بي أقرأ في الصفحة التي أمامي الكلام التالي:

كان في دار الملك كافور الإخشيدي (قهرمانة) بغدادية. عندها توقفت عن القراءة، لأنني لا أعرف ماهية تلك الكلمة، فما كان مني إلا أن أتصل بالأستاذ عبد المجيد علي، وهو المرجع الذي ألجأ إليه دائما كلما أعوزني السؤال في مجال التاريخ واللغة، وعرفت منه أن كلمة (قهرمانة) هي كلمة فارسية، وتعني الوكيل أو الأمين أو الحارس، وعندما تعجبت من ذلك، قال لي: ولماذا تتعجب؟ ألا تعرف أن هناك قهرمانات يحرسن في وقتنا الحاضر أحد الزعماء العرب؟! عندها فقط فهمت، وقلت له: كثر الله خيرك. وقفلت خط التليفون وبدأت أقرأ من جديد:

كان في دار الملك كافور الإخشيدي قهرمانة بغدادية لا تهدأ عن البكاء على ابنة لها خلفتها في بغداد بنت سبع سنين، فقال لها كافور: منذ كم غبت عنها؟ فقالت: من ثماني سنين. فأرسل كافور أمرا إلى صاحب بغداد وأمره بتحصيلها وإنقاذها، فحملت الصبية إلى مصر، وقد صارت بنت خمس عشرة سنة وحسنت، فلما صارت في دار كافور، قال للجواري: أخرجنها علي في جوار يعرضن للبيع ولا تعلم القهرمانة، وتكون هي التي تخرجهن. فجاءت إليه القهرمانة فقالت: يا مولاي، قد جاءوا بالجواري، أفأعرضهن عليك؟ فقال: افعلي. فأخرجتهن وابنتها فيهن ولا تعلم، فلما عرضن قال كافور للقهرمانة: ما فيهن إلا هذه الصبية، وأراها مليحة، فإيش عندك؟ فقالت القهرمانة: نعم يا مولاي، هي والله مليحة حلوة. فقال لها: ويحك! هي ابنتك، أرسلت إلى بغداد وتلطفت في أمرها حتى حملت إليك من بغداد. فقبلت الأرض بين يديه وبكت بكاء شديدا، فكأنها القائل في بعض شعره:

هجم السرور علي حتى إنه من عظم ما قد سرني أبكاني

يا عين صار الدمع عندك عادة تبكين في فرح وفي أحزان

ثم ضمت ابنتها إليها واشتد بكاؤهما وبكى كافور لبكائهما لما رأى من شوق كل واحدة منهما إلى الأخرى.

وفي اليوم التالي وبعد أن كفكف كافور دموعه، عقد نكاحه على ابنة الخامسة عشرة.

[email protected]