تزوير الصورة!

TT

واحدة من علامات الإعلام الحديث التي ستقضي تدريجيا على المصداقية الإعلامية، هي ظاهرة تزوير الصور، وتاريخ تزوير الصور قديم منذ أن ظهرت أول صورة عام 1814، وهناك دراسات أكاديمية شاملة حول تأثير الصور المزورة على ذاكرة الشعوب ومعرفتهم بأحداث الماضي، البعيد منه والقريب. فعلى سبيل المثال، نشر دانييل ساكي وآخرون مقالا مبنيا على دراسة لأحداث المظاهرات الصينية عام 1989 المعروفة بأحداث تيانمين سكوير (ميدان تيانمين)، عندما واجه المتظاهرون دبابات الجيش الأحمر والحزب الشيوعي الصيني، وكذلك لمظاهرات روما في حرب العراق عام 2003، وعرض الباحثون الصور على مجموعة من الإيطاليين المشاركين في البحث، الصور المزورة والصور الحقيقية. وفي كلتا الحالتين، تذكر المشاركون الأحداث بطريقة توحي بأنها كانت أعنف مما كانت وأشد دمارا. فمثلا، في مظاهرات روما السلمية، تحدث المشاركون في الدراسة عن كيفية تدمير المباني والقتل، والعنف الذي صاحب تلك المظاهرات، وتوصل الباحثون في هذه الدراسة المنشورة في دورية علم النفس الإدراكي إلى نتيجة مفادها أن الصور المزورة حتى لو وضعت إلى جانب الصور الحقيقية فهي تغير رؤية الناس للأحداث وبذلك تساهم في تزوير التاريخ، وتزوير الوعي.

وتزوير الصور كثير وله تاريخ، ولم يحدث بالأمس القريب مع ظهور «الفوتوشوب»، أو أنواع «السوفت وير» المختلفة، التي تسمح لصاحبها بتغيير الأحداث والملامح والمشاركين، بل كان دائما هناك التزوير البدائي للصور. أذكر أنه في انتخابات مجلس الشعب الماضية في مصر، وضع رأس أحد المرشحين التابعين للتيار الديني على جسم الداعية اليمني المشهور الحبيب الجفري، نفس لحيته الكثة، وجسمه وحركات يديه، ولكن الوجه كان وجه مرشح الدائرة، أو «ابن الدايرة»، كما يسميه أهل مصر، وكان هناك مرشحون شباب استخدموا وجوههم على جسم الداعية عمرو خالد من أجل الثأثير وكسب النظرة الأولى.

عندما ذهبت مع أخي الأصغر إلى القاهرة، في قطار الصعيد منذ عامين، ذلك القطار الذي يستغرق ما يقرب من عشر ساعات من الأقصر إلى القاهرة، والتقينا بعض نجوم الصحافة والفن في مصر، البعض على العشاء والآخر على الغداء. في واحدة من العشوات هذه، نظر أخي الأصغر إلي وقال: «هل لبثنا في قطار الصعيد يوما أو بعض يوم أم سنين عددا؟». ولم أدرك مغزى ما قال على مائدة العشاء، ولكنه أوحى إلي بشيء أقرب إلى حالة أهل الكهف. ولما عدنا إلى الفندق سألته عن قصده من العبارة شبه القرآنية التي قالها على العشاء وحارت فيها عقول الجمع من الحاضرين. قال: «كنت أرى وجوه هؤلاء في صورهم التي تنشر إلى جوار مقالاتهم في الصحف القاهرية، وجوه جميعها ناضرة في ريعان الشباب، الشيء نفسه ينطبق على الصحافيات اللاتي كن معنا، بعضهن يبدين في الصور وكأنهن كواعب أتراب. ولما رأيتهن خلتهن جداتي، إما أن القطار مكث بنا في الرحلة ما قضاه أهل الكهف في مخدعهم، وإما أن هؤلاء جميعهم «مزورون في صورهم». ونظر إلى شعر رأسه في المرآة وقال: «لم يشتعل الرأس شيبا، فأنا كما أنا والقطار أخذ بنا في الطريق عشر ساعات، ولا تغير في حال الزمن.. إذن أصحابك هم المزورون في الصور». وبالفعل راجعت بعض صور الكتاب إلى جانب مقالاتهم ومقالاتهن، فوجدت الصور أصغر بكثير من السن الحقيقية للكاتب أو الكاتبة. فإذا كانت بداية القصيد تزويرا في الصور، فماذا نتوقع من المقال؟ وماذا عن المعلومات والمعنى؟ هذا على مستوى التزوير العادي الذي قبله الناس بحكم العادة.

أما التزوير الحديث في الصور، فهناك صور كثيرة مشهورة زورت وغيرت ملامحها، مثل صورة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ مع أحد معارضيه؛ حيث أزيل المعارض فيما بعد من الصورة ونسي الصينيون أن هناك معارضة لماو. وكذلك انتشر تزوير كثير في الإنترنت في الصور المصاحبة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) حيث ظهرت صورة لسائح فوق أحد الأبراج وهو يأخذ صورا للطائرات التي جاءت لتقصف البرجين، وكان السؤال دائما: كيف نجت الكاميرا والفيلم من هذا الحريق الهائل؟

آخر الصور، وليست الأخيرة، كانت صورة انطلاق الصواريخ الإيرانية في يوليو (تموز) 2008 التي لم ينطلق فيها كل الصواريخ الإيرانية أثناء اختبارها، وقامت وكالة الأنباء الإيرانية والحرس الثوري بفبركة الصورة، حتى بدا أن كل الصواريخ قد انطلقت. كذلك القصة الشهيرة لمصور «رويترز» في بيروت عدنان حاج، الذي صور الدخان فوق بيروت أثناء حرب إسرائيل مع حزب الله عام 2006 على أنه أكبر وأعظم مما كان عليه، وسحبت «رويترز» الصورة لأنها اكتشفت أنها صورة مزورة. ويرجع الفضل في هذا، رغم تقدم أدوات التزوير، إلى تقدم ما يعرف الآن بـ«الفوتو فورنزيك»، أو معامل فرز الصور المزيفة من الصور الحقيقية.

الصحافة الغربية أحيانا تقع في فخ الصور المزورة وتنشرها، ولكن بعدها تعتذر لقرائها عن الخطأ، وقد حدث ذلك مع مجلة «تايمز» أثناء حرب إسرائيل على لبنان عام 2006، واعتذرت قبل ذلك «نيويورك تايمز» 2006 عن فبركات صحافية قام بها أحد مراسليها. الاعتذار ليس عيبا، ولكن العيب هو الاستمرار في تبرير الأخطاء، وهذه آفة عربية بامتياز، رغم تكرارنا لعبارات مثل الاعتراف بالحق فضيلة، إلى آخر فضائلنا الكلامية التي لا تطبق على أرض الواقع.

الصحافة العربية المكتوبة والمسموعة والمرئية خطت خطوات كبيرة نحو المصداقية، وبالطبع أمامها كثير أيضا، وكل ذلك جاء نتيجة جهد جماعي وكفاح أجيال من الصحافيين الذين نذكرهم والذين لا نذكرهم. لذا يكون عيبا كبيرا أن نضحي بهذا التاريخ ونضرب مصداقية الصحافة العربية في مقتل، عندما نستمرئ تزوير الصور، خصوصا أن الصحف الغربية تتناقل قصص تزوير الصور في الصحافة العربية بطريقة توحي بأن هذه الصحافة فاقدة للمهنية والمصداقية.

منذ أعوام سنت صحيفة «الشرق الأوسط» سنة حسنة في الصحافة العربية، من خلال عمودها «المراقب الصحافي»، الذي كان ينتقد الصحيفة وأخطاءها على صفحاتها. ولم يعب ذلك «الشرق الأوسط» في شيء بل زاد من مصداقيتها، وأتمنى لهذا العمود الذي استمر لأعوام، أن يعود مرة أخرى، لأن الصحافة مهنة الأخطاء، ولكنها أيضا مهنة الاعتذارات ومهنة توخي الدقة في المعلومة.

التزوير في الكتابة وفي الصور، يضلل، ويقضي على تاريخ أناس بذلوا جهودا كبيرة من أجل الوصول بالصحافة العربية إلى شيء مقبول من المصداقية. وفي النهاية، ذاكرة الشعوب التي قد يسهم البعض منا عن قصد أو عن غير قصد في تغييرها، هي ليست ملكا لنا ولا لغيرنا، لذا يكون تحري الأمانة والصدق، هو الملاذ الأخير لأي صحافة تبتغي الاحترام من قرائها.