الديمقراطية بأعين عربية

TT

في «اليوم العالمي للديمقراطية»، حاولت القنوات الفضائية التركيز على «الديمقراطية» الوافدة مع سيول الدماء والكوارث والحروب والتفجيرات وجيوش الغزو الأميركي المدجج بالكراهية والاضطهاد للمسلمين. وقد تم تركيز الحديث على «الديمقراطية» كقيمة عليا، بغض النظر عن مستوى حياة الناس، والمآسي التي تحل بهم، والدرك الذي تصل إليه حياتهم بذريعة الارتقاء بالعمل السياسي إلى المستوى «الديمقراطي». ففي العراق الحزين، أصبح خمس سكانه أميين، بعد أن قتل الغزاة «الديمقراطيون» مليونا من أبنائه، ومنهم الآلاف من علمائه ومثقفيه، واختزنت ذاكرة بلاد الرافدين ملايين السير المؤلمة الناجمة عن الترمل، واليتم، والفقر، والقتل، والعنف الذي جلبه الأميركيون معهم، ولكن لا أحد في الإعلام الغربي يكتب عن حياة هؤلاء البشر، أو يحاول تقييم ما جرى من تدمير فعلي لنوع وطبيعة ومستوى الحياة التي يعيشها هؤلاء. الأمر ذاته ينطبق على أفغانستان وباكستان اللتين يمزقهما العنف والحرب «الديمقراطية» والقتل اليومي بالطائرات الأميركية دون طيار، حيث سيجد الإعلاميون آلاف القصص ليرووها فقط لو أنهم يهتمون بحياة البشر وكرامتهم.

والحديث الأميركي عن «الديمقراطية» منفصل تماما عن توفير الماء، والكهرباء، والمدارس، والعمل، والأمن والكرامة! فما هي هذه «الديمقراطية»؟ وما هي أهدافها، إذا لم يكن الإنسان هو هدفها ومبتغاها؟

لم يحاول أحد الربط بين هذا «اليوم العالمي للديمقراطية» وبين ما جرى في تركيا، حيث تنمو ديمقراطية إسلامية تستند إلى تفويض شعبي غير مسبوق، فيتم تعديل الدستور وفق استفتاء معتمد على الاحتياجات الوطنية، وليس على المصالح الضيقة للشركات وأصحاب رؤوس الأموال كما هي العادة في الديمقراطيات الغربية. بل إن التركيز الإعلامي الغربي على أحداث سبتمبر (أيلول)، و«اليوم العالمي للديمقراطية»، والاستفتاء الديمقراطي في تركيا، كان مصرا على نشر الكراهية ضد الإسلام، واستمرت مظاهر الإسلاموفوبيا المخزية في الديمقراطيات الغربية في وضع صور مسيئة للمسلمين على أغلفة المجلات، وحرق المصاحف على الطريقة الهتلرية، ونشر المفاهيم المتعصبة ضد الإسلام، وربط المسلمين بالعنف السائد في العالم متجاهلين كل أشكال العنف، والاضطهاد، والقتل، والحرب التي يتعرض لها المسلمون على يد غير المسلمين في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية!

إن ما حدث في تركيا، هو تعبير عن جوهر الديمقراطية الإسلامية المعتمدة على الفكر والحجة والمنطق، لا على أسلوب الانقلابات التي كان يغذيها الغرب في تركيا وسواها من دول أميركا الجنوبية وآسيا والشرق الأوسط، والتي سببت المآسي للشعوب (تذكروا المجازر في تشيلي عام 1973 وقبلها الانقلابات في إندونيسيا وفيتنام وغيرها العشرات). وليس انقلاب 12 سبتمبر 1980 في تركيا ببعيد عن الذاكرة، الذي تسبب في قتل وسجن وتعذيب وتهجير الآلاف.

ويحاول الغرب «الديمقراطي» محو ذاكرة عنفهم وحروبهم واضطهادهم للمسلمين، ويحاول أن يكون هو الوحيد الذي يسجل التاريخ، ومن وجهة نظره فقط، وتبقى الضحايا مطموسة المعالم والهوية، إذ لا أحد يسجل آلامها وتاريخها وعذاباتها.

إن ما يؤلم هنا، ليس فقط ما حل بالعراق، وفلسطين على سبيل المثال، ولكن ما نقرأه يوميا من قصص مضللة يقلب حقيقة ما حدث، فتحول الضحية إلى قاتل، والقاتل إلى «ديمقراطي» ساع إلى حياة أفضل لهؤلاء الذين يدمر حياتهم ومستقبل أوطانهم وأطفالهم!

المشكلة اليوم، هي أن لغتنا، وقيمنا، وأفكارنا، قد أصبحت أداة في يد الآخر للتعبير عنا نحن العرب، وعما يرتكبه ضدها في ديارنا، بينما نجلس نحن متفرجين متلقين لأخبارنا منه، ومطلعين على عذاباتنا من وجهة نظره، وعلى قيمنا من خلال رؤيته المليئة بالكراهية العنصرية لها. والخطورة هنا، هي أن نستمر في هذا الوضع السلبي إلى حد الاضمحلال، وإلى حد لا يبقى شيء منا يشير إلى حقيقة واقعنا، بل تبقى القصة التي كتبها الغزاة عنا، وتندثر قصصنا نحن العرب تحت وطأة الإنتاج الفني، واللغوي، والسياسي، الذي تنتجه الجهات المدججة بالكراهية ضد المسلمين، التي تروج نفسها بأنها «ديمقراطية» وقادمة لتحرير الشعوب من ربقة التخلف والاستبداد! فبالإضافة إلى وصف كل ما يجري أمام أعيننا بلغة كاذبة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، يعمد المستعمرون اليوم إلى توجيه ضربة قاسية للغتنا وثقافتنا وكل ما نعتز به من إرثنا بدعوى الحداثة والتحضر وغسل أدمغة البعض من أبناء جلدتنا ليتحولوا إلى جلادين للذات ومروجين للكراهية الغربية ضد العرب.

وقد انتبهت بعض البلدان في العالم، وخاصة في آسيا، إلى خطورة ما يجري، حيث بدأت آسيا تصبح رائدة اليوم في التقدم العلمي والأبحاث، فقد زادت منطقة آسيا والمحيط الهادئ حصتها العالمية من المقالات العلمية المنشورة من 13 في المائة عام 1980 إلى أكثر من 30 في المائة في 2009 وفقا لمؤشرات «طومسون رويترز الوطنية العالمية». وها هي تركيا تحقق نهضة، كما حققت ماليزيا وإيران في البحث العلمي والجامعات، التي هي أساس كل نهضة صناعية، أو زراعية، أو حتى سياسية.

ما يقلق في هذا المجال، هو الوضع في العالم العربي، الذي تنخفض كل مؤشراته البحثية والمعرفية، ومؤشرات القراءة والنشر، إلى حد غير مقبول، لا بل حتى إن اللغة العربية تشهد تراجعا مخيفا على يد وزارات التربية في الدول العربية ذاتها، وذلك نتيجة المفهوم الذي روجه الأعداء بأن لغتهم هي لغة العلم والمعرفة، وأن لغة القرآن غير قادرة على استيعاب العلوم الحديثة! إذ لا أعلم أمة أخرى ينشأ أبناؤها في مدارس خاصة لا تعلم اللغة الأم، ومن هنا يبدأ الخلل، بأن نصبح متلقين فقط غير فاعلين على ساحة الإنتاج العلمي والمعرفي، وبالتالي غير فاعلين على الساحة السياسية، والثقافية، والإنسانية، بل يتحول البعض منا إلى ببغاوات يرددون عبارات الكراهية الغربية ضد العرب.

وقد أظهرت آخر الدراسات أن اللغة الأم هي التي تصوغ مواقف الإنسان، لأنها تحدد عاداته الفكرية، والتي توجه خبرته وأعماله ومواقفه في الحياة، ولذلك نرى أن معظم الدول اليوم تصر على استخدام اللغة الأم لأبنائها إلا الدول العربية، حيث تعاني لغتنا العربية بشكل لم يسبق له مثيل من الإهمال الرسمي، فمعظم المدارس والجامعات الخاصة في العالم العربي، وحتى بعض الجامعات الحكومية، أصبحت تستخدم اللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، وأصبح الطامح للدراسة بالعربية يجد صعوبة في إيجاد جامعة عربية تدرس مختلف العلوم بلغة الضاد.

وهنا أحاول الربط بين الغياب السياسي التام للدول العربية على المستوى الدولي، إلا حين تحتاج إليهم متطلبات العلاقات العامة الأميركية، وبين التغييب الرسمي المتعمد للغة والتراث والثقافة، فإذا لم يكن الإنسان نتاج لغته وثقافته ومكونات حضارته، فماذا يكون؟ وإذا لم تكن الديمقراطية تهدف إلى رفع مستوى حياة الإنسان وإسعاده والارتقاء بكل أوجه حياته، فماذا تكون؟

المشكلة الأكبر اليوم، هي أننا، نحن العرب خصوصا، متلقون لإنتاج النظم الغربية حتى فيما يتعلق بقضايانا ومصالحنا. وحين تظهر دولة مسلمة وتقدم تجربة مشرقة للعالم، يتم الحديث عنها بعيدا عن هويتها المسلمة، ودون أي ربط بين حضارة الإسلام، أو حضارة المنطقة، وبينها.

لقد قدمت ماليزيا أنموذجا رفيعا للديمقراطية في بلد مسلم، وكذلك فعلت تركيا، ولكن هذا الأمر لا يدخل في حسابات الإعلام الغربي المصر على الترويج للإسلاموفوبيا ومظاهرها المخزية كحرق المصاحف، والتعرض لمقدسات وقيم المسلمين وتوجيه العنف والإرهاب والاضطهاد ضدهم داخل البلدان الغربية وخارجها.

إن الاضطهاد المتصاعد للمسلمين في البلدان الغربية وحرمانهم من الحريات، وكذلك المآسي التي سببها الغزو الغربي «الديمقراطي» للعراق وأفغانستان، وما يجري اليوم على الساحة الباكستانية، يمثل فقط أحد أوجه التاريخ الحديث للديمقراطية الغربية المتعطشة لدماء المسلمين. أما الوجه الأخطر الذي نراقبه اليوم في عالمنا العربي، فهو السلبية المطلقة، التي تتمثل في التلقي وعدم الفعل، وتلقي حتى أخبارها من المصنعين الغربيين المعادين للمسلمين الذين ينشرون الاستخفاف بلغتنا، وقيمنا، وثقافتنا، وديننا.

أولا يستطيع العرب أن يقدموا أنموذجا للديمقراطية الحقيقية، كما قدمت تركيا وماليزيا للعالم، وذلك بمعنى الاستنهاض اللغوي، والفكري، والاجتماعي، والسياسي لقوى المجتمع كافة؟! آنذاك فقط لن يتمكنوا من الاستهانة بآلامنا، ولوم ضحايانا بدلا من قاتليهم، وآنذاك فقط ستشكل أحكامنا جزءا من معرفتهم، وإعلامهم، بدلا من أن نكون موضوعا لكل ما تتفتق عنه عنصريتهم من كراهية وبغضاء للعرب والمسلمين.