الإعلام المفترى عليه

TT

من الظواهر المعروفة مع غرابتها المألوفة على بشاعتها في كثير من المجتمعات العربية والمجتمعات المماثلة لها في ظروفها الوبيلة وقدراتها الهزيلة، ذلك التتابع الشديد الذي يكاد أن يبلغ حد الإجماع على القول بمفاهيم تقال وتشاع وتنتشر وتذاع، ويعمّ ترديدها وتأكيدها دون النظر إلى ما في هذه المفاهيم من خطأ أو صواب وما تنطوي عليه من ظلم أو عدالة. ولعل أقرب مثال على ذلك ما يقوله كثير منا في إصرار وإلحاح عن مسؤولية الإعلام عما تعانيه هذه المجتمعات من واقع طال شقاؤها به. ومما يجب التأكيد عليه هنا أن ما يقصد بالإعلام لا ينحصر في مؤسسات رسمية وكلت إليها وظيفة تقوم بها وتؤجر عليها، ولكن الإعلام المقصود كل من يشارك بأنواع النشر من الكتابة والحديث والإمداد بالوسائل الأخرى المكونة أو المعينة على تكوين مادته ونشر رسالته.

الإعلام في نظر كثيرين سبب كل بلاء وناشر كل خطيئة ومسوغ كل ذنب، إنه وحده الناشر والمسوغ والمذيع، المادح والمبارك لما في تلك المجتمعات وما يفرض عليها من تضعضع وهوان، وما ترزح تحته من قيود، رضيت بها أو استسلمت لها أو عجزت عن الخروج منها أو الخروج عليها.

الإعلام - بمفهومه العام - في نظرة هذه الفئات هو الحاضن والسادن لأنواع الفساد والفقر والتضعضع والاستبداد!! وهو الصارف عما يُذم بما يذيع من مديح والمواري لحالات المعاناة بما يتحدث عنه من فيوض الخيرات.

ما مدى ما يحمل هذا الموقف من عدالة أو مظلمة أو ما فيه من خطأ أو إصابة وما ينطوي عليه من تعليل مقنع أو تحليل مفيد؟

هل الإعلام هو الصانع المنشئ – ابتداء - لكل أو جُل ما تعاني منه هذه المجتمعات من بلوى، هل هو المؤصل لها القائم على رعايتها وحمايتها؟ أليس الإعلام - في أدنى حالاته - إلا سوقا كبيرة تُعرض فيها البضائع التي تجلب إلى تلك السوق؟ هل على الإعلام أن يتبنى وظيفة معلم الأحداث يحمل في يده عصا غليظة يرفعها ويؤدب بها كل من يخرج عن النهج الذي خطه معلمهم والطريق الذي اختار لتلامذته أن يسلكوه.

أليس نشر الإعلام لما يرد السوق من غثاء - وهو الأكثر - وما ينفع الناس - وهو الأقل - نوعا من رفع الغطاء عن واقع المجتمع والإبانة عما عليه أهله من ضعف أو قوة وصحة أو اعتلال وكشف عن حالته بما فيها مما يُحمدُ أو يُذم؟

أليس الإعلام هو المرآة التي ترينا وجوهنا كما هي وما فيها من تجاعيد أو أخاديد وما يبدو عليها أحيانا من مسحة ملاحة أو ملمح كمال؟ أليس كثير مما يعرف أفراد هذه المجتمعات مما في مجتمعاتهم من فساد أو استبداد، وأن كثيرا من مصادر الشكوى وأسبابها ما كان يمكن أن يُعرف أو يُكشف لولا ما يقوم به الإعلام من نشر له وحديث عنه يختلس ذلك أو ينهبه في غفلة من رقيب أو غياب من حسيب أو مراغمة للرقيب والحسيب، وكثير من القضايا والخفايا؟ أليس الذي أزاح الستار عنها وكشف المستور منها هو الإعلام بحديثه عنها ونشره لها؟

الإعلام ليس الذي يغزل خيوط نسيج البضاعة التي تُجلبُ إليه، سواء أكانت رديئة أم جيدة. كما أنه لا يطرق على الناس أبوابهم يسألهم أو يحملهم على أن يجلبوا إليه بضاعتهم، ولكن أفرادا من المجتمع ألفوا الهوان وقبلوه وقد يكونون عشقوه، هم الذين يتزاحمون ويتسابقون إلى سوق الإعلام لعرض ذواتهم العاشقة للهوان.

لماذا يتوجه الناس بحملاتهم الكثيرة والمثيرة وهجومهم المتكرر إلى الإعلام وهو ليس الصانع الحقيقي لما في هذه المجتمعات من آلام وآثام؟ هل يصنعون ذلك لأنهم يعجزون أو لا يجرؤون على أن يتوجهوا بنقدهم - فضلا عن محاسبتهم - إلى الصانع الحقيقي للأخطاء والأرزاء؟ هل يسلكون ذلك طريقا بديلا عن طريق لا يجرؤون على سلوكه أو لا يستطيعون الوصول إليه؟ هل يحدث ذلك لأن الإعلام هو الساحة التي لا حراس عليها ولا جنود يحمون حدودها؟ أليس الهجاء الدائم للإعلام وتوجيه النقد المتكرر إليه يحدث لأنه الحاجز الذي يسهل أو يمكن اجتيازه دون التعرض لمخاطر تُحذر أو تُذكر؟

الإعلام هو المشجب الذي يعلق عليه كلٌ عجز المجتمع وقصوره. إنه البحيرة التي تسكب فيها أو عليها كل الدموع ويطلق فيها أو ينطلق منها كل المكظوم أو المكتوم من العبرات والزفرات.

الإعلام ورجال الإعلام والقائمون عليه والعاملون فيه والمشاركون فيما يذيعه وينشره ليسوا مجتمعا من الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولكنهم بشر يخطئون ويصيبون ويدفعهم الشعور بالواجب حينا كما يدفعهم الهوى أو الخضوع أحيانا أخرى ولكنهم - كما تقدم - ليسوا الصانعين الحقيقيين للواقع الذي نعيشه ولا الحامين له القائمين على ما له من حدود. والإعلاميون يقدمون على مخاطر يتجنبها ويخشاها سواهم، ويقتحمون من المحاذير ما يتهيبه ويتجنبه غيرهم، وإن أفرادا منهم يضحون براحتهم وأمنهم بل ويخاطرون بحياتهم في سبيل ما يعتبرونه أداء لواجب أو وفاء لرسالة.

كاتب هذه السطور ليس من المسؤولين في الإعلام أو عن الإعلام، ولا العاملين فيه أو المنتسبين إليه، ولا يُنتظر أن يكون، ولكنه ممن يؤرقه أن يظلم فرد أو فئة أو يُزور ما يقوم به فرد أو فئة من عمل ويحبط ما يتطلعون إليه من أمل.

الموقف الذي يتخذه كثير من الناس موقف ظالم أو متحامل، ولا يجوز أن يمنع من يحمل هذا الشعور ما يعرفه من تعارضه مع اندفاع التيار، بل يجب أن يكون ذلك دافعا إلى الموقف المغاير محرضا عليه. إن الاستسلام للتيار ليس فضيلة جديرة أن يُشار إليها أو يظن أن يُثاب عليها. وإذا كان ليس من حكمة النفس ووقارها المبالغة في إطراء عمل فرد أو جماعة، فإن العمى عن رؤية أي عمل يجب أن يُذكر فيشكر، أمر مما يتعارض مع ما يوجه إليه الدين وتقتضيه الأخلاق.

* أديب سعودي.