إفراز التخلف والتطرف

TT

عندما تقدم القس المغمور تيري جونز للعالم بفكرة يوم مخصص لحرق القرآن، حولته لأشهر رجل في العالم لسويعات معدودة، وسطرت اسمه في تاريخ الإعلام كفقرة خبر عاجل يتداولها الناس ويعلق عليها حاكم البيت الأبيض، وبلغ عدد الصحافيين المتجمعين أمام كنيسته أكثر من أعضاء الكنيسة نفسها. التطرف الحاصل في أميركا اليوم يمثل تحديا جديدا ومهما للدستور الموجود فيها. فمع كثرة وازدياد مظاهر المعاداة والكراهية لبعض أطياف المجتمع المنتمين لطوائف وأديان معينة ستزداد حدة التصادم بين المنادين بحرية الأديان وممارستها، والمنادين بحرية التعبير وأساليبها. فاليوم يبدو واضحا أن حرية التعبير تحولت في بعض الأحيان إلى حرية الإهانة، وأصبحت معايير الإهانة تختلط بالحريات.

هذا يعود لخلط في المفاهيم أصاب الفكر والثقافة الأميركية منذ الخمسينات الميلادية من القرن الماضي. وهذا الخلط حدث نتاج الابتعاد التدريجي عن فكرة الحرية (Freedom) واستبدال فكرة التحرر (Liberty) بها، والفرق بين الاثنتين جوهري ودقيق؛ وهو أن الحرية كانت دوما مرتبطة بسقف أخلاقي، وعندما أزيل هذا السقف بالتدريج تحولت الحرية إلى تحرر، والتحرر إلى فوضى عارمة لا ضابط رادعا لها في بعض الأحيان. وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجهه اليوم صانعو الأنظمة والقوانين في الولايات المتحدة للتغلب على المناخ المشحون الموجود حاليا.

تيري جونز إمعة متطرف، وطالب شهرة، وحتى «عتاولة» القساوسة المتطرفين الموجودين على الساحة الأميركية اليوم لا يأخذونه على محمل الجد البتة. وطبعا لم يكن تيري جونز أول المتطرفين وحتما لن يكون آخرهم. فالماكينة تفرز كل يوم وجها جديدا، فلم تمض أيام حتى خرج «معتوه» آخر أساء لأم المؤمنين السيدة الحبيبة عائشة رضوان الله عليها بأسوأ الصور والصفات من موقعه المريب بلندن، وهو نموذج لا يقل سوءا أو خطرا عن تيري جونز، وكلاهما ينتمي إلى الفصيلة نفسها التي تلفظ هكذا آراء، ولكنه لم ينل القدر نفسه من الاهتمام الذي ناله القس تيري جونز.

ومنذ فترة ليست قريبة خرجت فرقة «معتوهة» في بلد مسلم ومتسامح وجميل ووسطي مثل ماليزيا، تقوم بحرق الأناجيل، وتهدد المسيحيين من سكان هذا البلد. وواضح أنها - أي ماليزيا - وقعت هذه المجموعة فيها ضحية الفكر المتطرف إياه، وطبعا لا يمكن إغفال الحاخام اليهودي المتطرف عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس الأصولي الإسرائيلي، والذي طرح مرارا فكرة ضرورة قتل العرب والفلسطينيين، وشبههم بالعقارب والأفاعي، وأبدى رغبته في ضرورة الخلاص من الرئيس الفلسطيني محمود عباس في أقرب فرصة. وطبعا عانى الهنود ولا يزالون يعانون من التطرف الهندوسي البشع ومواقفهم من المسلمين والسيخ والمسيحيين.

الفضائيات والإنترنت ساهما بشكل هائل في توسيع رقعة التطرف والكراهية، وعربيا هناك فضائيات «مرعبة» في طرحها الإقصائي، ومهينة بما تطرقه على عقول وأسماع وأبصار الناس، وكلها من باب الدين والدفاع عنه وحمايته، أو من باب العادات والأصالة. فالمشاهد لمحطتين عربيتين تدعيان تقديم خطاب سني نقي، يلاحظ أن خطابهما لا يخلو، في واقع الأمر، من السباب واللعن في حق مخالفيهم الذين يسمونهم بالمعممين، وهذه لفظة غبية ومهينة؛ فالعمامة زي تقليدي في السودان وعمان والمغرب والعراق وباكستان وأفغانستان، والكثير من رجال الدين، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، كانوا يرتدونها.. لكنه الجهل وإساءة الأدب. وفي المقابل هناك محطتان أخريان مليئتان بالإهانات والسباب واللعن بشكل لا يمكن لأي عاقل القبول به أبدا.

التطرف بحاجة لمواقف حاسمة وجادة تمنع تماديه، وبحاجة لتجفيف منابعه واستئصال شروره وعدم اعتبار حرية الرأي رخصة للإهانة والازدراء والتعرض لمقدسات ورموز الغير المقدرة والمقدسة، وهو مأزق يقع فيه الغرب والعرب وغيرهم بالدرجة ذاتها. التحدي الحقيقي في خلق المجتمعات السوية هو تكوين حالة احترام عامة وقانون يساوي بين الجميع ولا يفرق بين أحد، وحينما يسود القانون بسقف أخلاقي وإنساني سيكون كافيا لحماية الناس فيه. ومتى تكونت الفروقات والطبقية داخل القوانين - مهما كانت كلمات هذه القوانين بليغة - سيستمر التطرف يفرز أبطالا جددا.

[email protected]