السيد جميل

TT

مرة واحدة تعاملت فيها مع المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي اللبناني جميل السيد، الذي تحول هذه الأيام إلى شخصية صاخبة بحجة ملاحقة من يسمون بشهود الزور. قبل أن أدخل مكتبه كنت سمعت عنه الكثير، أنه القبضة الحديدية في البلد، ومن يدير الكثير من شخصيات ومؤسسات، وأنه سيكون أحد السياسيين الفاعلين، والأرجح أنه سيحل محل نبيه بري رئيسا للبرلمان اللبناني.

كان محظورا علي دخول لبنان بطلب من رئيس الجمهورية حينها إميل لحود، الذي كان رجلا ضيق الأفق لا يعرف أبدا كيف يدير معاركه إلا بالملاحقات. دخلت بيروت بصفة استثنائية للبحث في قضية وضعي على قائمة الممنوعين، وذلك من ناحية سياسية وقانونية. نصحني صاحبي أن أوفر على نفسي عناء المهمة الطويلة المقبلة، وقال اذهب مباشرة إلى جميل السيد.. باختصار إن كان الرئيس هو من يربط فإن السيد هو من يحل! ذهبت إلى هناك وكان لطيفا، حيث أعطاني من وقته رغم أن ابنته كانت تسأله في الهاتف أن يأتي إلى البيت في عيد ميلادها ذلك اليوم. لن أقول ما دار في مكتبه من حديث، لكن السيد اختتم الجلسة، حيث كتب على جواز سفري «يسمح له بالدخول»، وكان هذا السطر كافيا لإنهاء المشكلة المعقدة، باستثناء أنه في كل مرة كنت أدخل أو أخرج من مطار بيروت يسألني ضابط الجوازات: ما هو أصل المنع؟ من قبيل الفضول.

وجدت فيه، بالفعل، ما كان يشاع عنه، أنه رجل ذكي، ومتحدث لبق، وصاحب دراية سياسية تؤهله حقا إلى أن يكون أحد الزعامات المقبلة، وعزز هذا الانطباع حرصه على البقاء خلف الأضواء في بلد امتاز بالدعاية والشهرة لكل من شاء، مهما قل مركزه. المفاجأة أن الهارب من الأضواء فجأة أشعل حريقا، وتعمد الصراخ حتى بح صوته حتى يلفت الأنظار إلى نفسه في توجيه الاتهامات إلى رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري. قد يقول قائل إن شخصا كان في رتبة لواء، ووضع في السجن أربع سنوات بلا دليل، وأطلق سراحه بلا تهمة أو محاكمة له أو لمن ادعى عليه، من الطبيعي أن يصرخ بأعلى صوته. ولا جدل في ذلك لولا أن جميل السيد بدا للجميع أنه مجرد زر صغير في يد أحدهم ضغط عليه فصرخ! هل يريد أن يسلك طريق الأزرار الصغيرة وإلغاء كل ما بناه في معركة كان يستطيع أن يبنيها قانونيا وإعلاميا دون أن يبدو بلطجيا بتهديد رئيس الحكومة؟ هل يريد أن يتحول من ضحية «سجين مظلوم» إلى فرد في ميليشيا؟ مهمة سهلة إنما تجعله رجل المناسبات السيئة.. فقط يؤتى به في حفلات الشجار. كنت، وكان كثيرون، أعتقد أن جميل السيد سيصبح أحد زعماء لبنان السياسيين بقدراته وعلاقاته ومهارته في اللعب السياسي.

ومن الطبيعي أن إدارته للأجهزة الأمنية في زمن اغتيال رفيق الحريري كانت ستسلط الشكوك حوله شخصيا بحكم الوظيفة، حتى لو لم يعتقل أو يوجد شهود زور. وإن كان صحيحا أنه يريد إرضاء حزب الله الذي افتتح المهرجان الخطابي ضد حكومة الحريري، فسيصبح مجرد واحد من عشرات رجال الحزب.. هل هذا ما يريده؟

إذا كان السيد يملك قضية فمن حقه أن يترافع فيها، والادعاء القانوني في الخصومات عمل يحترمه الجميع، لأن فيه احتراما للدولة ومؤسساتها وقانونها، حيث كان هو نفسه حارس القانون، أما بالصراخ الإعلامي فلن يبحر بعيدا.

[email protected]