أركون: ناقد التراث الديني.. أغفل تقديم منهج «إصلاحي»

TT

أدهشني صائب سلام. فقد وجدت، على طاولته في حديقة «فيلاّه» في الريف الفرنسي، كتاب محمد أركون بالفرنسية (الفكر العربي / La Pensée Arabe). عجبت كيف وجد هذا السياسي اللبناني الكبير وقتا لقراءة الفكر والثقافة. وبصراحته المعهودة، أذكر أن الراحل سلام شكا من أنه يجد صعوبة في قراءة هذا المفكر الكبير المهتم بالإسلاميات. ومع أني أعتبر هذا الكتاب الأسهل والأكثر تبسيطا بين كتب أركون الكثيرة، فقد وجدت في الشكوى مرآة تعكس انصراف غالبية المثقفين والمفكرين العرب عن قراءة أركون.

مات أركون عن 82 عاما في ثلاثاء الأسبوع الماضي. خلال إجازتي القصيرة، اعتزمت أن أكتب عنه هذا الثلاثاء. لم أخش أن يسبقني إليه الكثيرون. كعادتي، فأنا لا أكتب تقريظا لراحل. ولا مدحا لمقيم. إنما أحاول أن أقدم بصراحة وأمانة صورة للسلبيات والإيجابيات. ولدهشتي أيضا، فقد انصرف أركون فجأة، بلا استئذان. لم يثر ضجة كبيرة، كتلك التي أثارها رحيل إدوارد سعيد (2003)، أو نصر حامد أبو زيد الذي رحل في يوليو (تموز) الماضي.

لماذا هذا الانصراف العربي والإسلامي عن أركون؟ السبب الأول كون أركون كتب بالفرنسية المجهولة نسبيا لدى معظم المثقفين والمفكرين العرب. لماذا كتب بالفرنسية، وهو الجزائري الدارس للعربية في جامعة الجزائر؟ لأن أركون خرج من أسرته الأمازيغية (البربرية) المتدينة إسلاميا، لينتمي إلى عالم الثقافة الفرانكفونية. هذه الثقافة المشتبه بعدائها، لدى المثقفين والإسلاميين العرب، لعروبة المغرب، وخصومتها للتعريب وللثقافة الدينية.

تخرج أركون الشاب في جامعة الجزائر في عام 1954. لم يلتحق بالثورة الجزائرية ضد الاستعمار التي ألهبت الجزائريين، عربا وأمازيغ. آثر الذهاب إلى فرنسا لمتابعة دراسته الأكاديمية المهووسة بالإسلاميات. أركون، كمفكر عميق البحث في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، ظل يكتب ويقول أكثر من أربعين سنة. بالغ في نقد التراث. راح يكرر نفسه. مع ذلك، كأستاذ جامعي في السوربون، لم يتمكن من تشكيل قاعدة «شعبية» له من تلامذته. لبقائه في إطار الثقافة الفرانكفونية / الأمازيغية.

امتلك أركون ذكاءً حادا. ركز نقده على العقل والفكر في الإسلام. التزم الكلام العام في نقد الأصول (القرآن. الحديث. الشريعة). تركيزه على العقل جنَّبه تكفير وزندقة الإسلاميين له. لكن صعوبة قراءة أركون، في الفرنسية وتراجم الآخرين له إلى العربية، تعود إلى تطبيقه نظريات النقد والتفكيك والتشكيك، في الفلسفة والعلوم الإنسانية الحداثية الغربية، على التراث الديني الإسلامي، بحيث كان الإبهام والالتباس شديدا، بحكم كون الإسلام ثقافة وحضارة مختلفة كليا عن الثقافة والحضارة الغربية.

في كل معالجة فكرية وثقافية نقدية، هناك محصِّلة يبني عليها الباحث والمفكر رؤية تفصيلية لمشروع بديل، أو على الأقل لنهج إصلاحي، وتغيير معدِّل. ظل أركون يقول منذ ثلاثين عاما إن لديه نهجا لتطوير الفكر التراثي التقليدي. بشَّر بعلم سمَّاه «علم التطبيقات الإسلامية». لكن لم يقدم التفاصيل. لم يرسم طرائق العلم الجديد. قال إنه ترك المهمة لغيره لمتابعة المشوار!

لماذا لم يستكمل أركون نقده بالبناء؟ امتلك الجرأة في الهدم. لم يمتلك الجرأة في الإعمار. الأرجح أنه في مأمنه وملاذه الغربي، خشي من غضبة الإسلاميين التكفيريين و«الجهاديين» وملاحقتهم له. كما فعلوا مع أمثال سلمان رشدي الذي جاهر بالمحظور والمحذور، و«بالذي لا يمكن التفكير أو الحديث عنه»، على حد تعبير الخائف أركون.

وهكذا، لم يصل أركون إلى مرتبة المفكرين الإسلاميين الذين قدموا مشروعا أو نهجا إصلاحيا: الأفغاني في السياسة. محمد عبده في التربية وتطوير المعاهد الدينية. علي عبد الرازق في القضاء وأحكام الشريعة. رشيد رضا وحسن البنا في تحزيب الدين. ونفي الشيعة وغير المسلمين من الانتماء إلى الحزب الإخواني. شكيب أرسلان في الارتداد إلى العروبة عن الخلافة الدينية (العثمانية). سيد قطب وابن لادن في تكفير الدولة، وزندقة المجتمع (الجاهلي). إدوارد سعيد في كشف الاستشراق المعادي للعروبة والإسلام. وأخيرا نصر حامد أبو زيد الذي حاول قراءة وتفسير النص القداسي، خلافا للاجتهاد التقليدي.

بل وصم أركون مستشرقي القرن العشرين، بالبعد عن معالجة واقع المجتمعات العربية والإسلامية. غير أنه هو نفسه لم يهتم بالقضايا التي تشغل الإسلام الأوروبي: الهجرة. الإقامة. الفقر. التخلف. بطالة شباب الضواحي غير القادرين، أو بالأحرى، الممنوعين من الاندماج في مجتمعات المدن (العنصرية).

وكما لم تجتذب الثورة الجزائرية المفكر أركون، فهو أدان الاستعمار، بشكل عام، من دون أن يتأثر بما حدث لعروبة فلسطين، وللاستيطان اليهودي الشبيه بالاستيطان الأوروبي الذي اقتلعته الجزائر، من دون أن يشارك هو في الاقتلاع.

أستطيع أن أصف أركون بـ«المستشرق الآتي من الشرق»، فيما كان أكثر مستشرقي القرن العشرين أهمية آتين من الفرانكفونية (المستعربة) المتعاطفة مع الإسلام العربي: لوي ماسينيون اهتم بالتصوف. الماركسي ماكسيم رودنسون اعتبر الإسلام الجديد نوعا من الوطنية لحماية الهوية. وقرأ المجتمع العربي قراءة تحليلية لآلامه. جاك بيرك قرأ القرآن. ترجمه. ركز على جمالية الأدب واللغة العربية.

كلما قرأت أركون أشعر بأنه غير متعاطف مع التراث الديني الذي أمعن في دراسته ونقده. بل تجنب أمانة البحث العلمي والأكاديمي عندما انحاز، من دون تقديم تفاصيل واسعة، إلى المذهب الشيعي، بحجة أنه أكثر انطلاقا وانفتاحا في قراءة القرآن. بل أسند إلى التشيع الفارسي «قوى الخيال الإبداعية». لعله وجدها لدى «المبدع» نجاد.

تجاهل أركون نقد نظرية السلطة والحكم في التشيُّع. تجاهل حصرهما، احتكارا، في آل البيت. تجاهل معصومية الإمامة عن الخطأ والنقد. تجاهل الرؤى العينية التي تراود «المبدع» نجاد.

إذا كان أركون، في قراءته الإسلام، تأثر بفلاسفة التفكيك وعلماء الاجتماع الغربيين، فلعله تأثر، في قراءته وانحيازه للإسلام الشيعي، بالمفكر أدونيس وبطانته. فقد أحاطوا بأركون منذ أواسط الثمانينات. أدونيس في نقده التراث الديني، كان يستهدف، كأركون، المرجعية السنية. أدونيس بدوره أيضا، تجاهل نقد المذهب الشيعي، على الرغم من أن هذا المذهب لا يعترف بشيعية الطائفتين العلوية والإسماعيلية.

في اغترابه الفرنسي، استفاد أدونيس من أركون الذي قدمه إلى مفكري الفرانكفونية الفرنسية، اعتقادا من أدونيس أنهم يخدمونه في مشروع «نوبلته»، فيما استحى أدونيس من تقديم أركون إلى جمهوره «العلماني» العربي.

رحم الله أركون. لم يفكر في «النوبلة» وهو حي. ربما يخطفها وهو ميت من أدونيس. على أية حال، لم يكن الراحل أركون يُداني أدونيس في جمالية نثره العربي. يكفي أركون فخرا أنه لم يقل شعرا منثورا. لم يساهم معه في إتلاف ذائقة الشعر الموسيقية في السمع العربي.