أكثير عليه أنه مات طبيعيا؟!

TT

تعتزم السيدة رقية السادات، ابنة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، رفع قضية في المحاكم المصرية على محمد حسنين هيكل، الكاتب المصري المعروف، تتهمه فيها بالإساءة الشديدة لتلميحه وغمزه ولمزه في برنامج فضائي يقدمه على محطة «الجزيرة» الإخبارية بأن هناك من يعتقد أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من الممكن أن يكون قد مات مسموما بسبب فنجان قهوة شربه من صنع يدي السادات نفسه الذي تطوع بإعداده داخل الجناح الرئاسي بفندق «الهيلتون» بالقاهرة في الليلة التي سبقت وفاته، ويأتي هذا «التصريح» بعد نحو 40 عاما من وفاة عبد الناصر، ويقدم بشكل غريب. وحقيقة يستوقفني «التصريح» ويجعلني أفكر: لماذا يصر الناصريون على حرمان جمال عبد الناصر حق العيش والموت والذم والخطأ بشكل طبيعي؟! لماذا يجردونه من إنسانيته ومن بشريته؟!

عبد الناصر بحسب أقوالهم لا يمكن أن يخطئ، لأن هناك من «تآمر عليه» من حوله، وبالتالي «خذله»، ولا يتوسعون في القول أكثر ليخبرونا ويجيبوا عن السؤال: «يا ترى من الذي أحضر هؤلاء الناس الذين من حوله؟ ألم يكن باختياره وحده؟ وهل كان يجرؤ أحد على فرض أي شخصية عليه؟»، لماذا يستكثرون على قلب عبد الناصر أن يتوقف تعبا وألما وإنهاكا وندما بعد مشوار منهك ومضن مليء بالخيبات والحسرات؟ كيف لا وهو الذي أمضى عمره السياسي في خلق المعارك مع الأشقاء قبل الأعادي؟ ففقد السودان الذي كان جزءا من مصر، وأضاع وحدة مع سورية برعونة إدارته للتحدي العظيم واستخفافه بالسوريين وتراثهم وتعيين «صبية أشقياء» يديرون شؤونهم ويسيرونهم، ودخل في حرب حمقاء، بلا هدف ولا داع، في اليمن، وبدد احتياطي الذهب لبلاده، وأضاع وأزهق أرواح الأبرياء، وولد عداء غريبا مع العراق وخونهم وشكك في نياتهم، وطبعا لا يمكن نسيان ولا تجاهل المعارك «الصوتية» التي أطلقها في حق السعودية بشكل فظ وغليظ، حتى إنه اعتدى على أراضيها بطيرانه خلال معركته الخاسرة في اليمن.

وطبعا هناك عداؤه المعروف مع الأردن وملكه، وكذلك تحفظه الشديد في حق تونس والمغرب، وأخيرا كان لنتاج كل ذلك تشتيت توجهاته، وتحويل بلاده داخليا إلى بؤرة مباحث ومخابرات، وامتلأت السجون بالمعتقلين، وأصبح المصري يخاف أن يفكر حتى بينه وبين نفسه، خوفا من زوار الفجر وضيافة المعتقل، وبدد الحريات، واختفت الصحف الجريئة الصادقة، وماتت الحياة البرلمانية العتيدة، كل ذلك أدى حتما إلى النتيجة الأبشع، وهي فقدان مصر (وطبعا دول عربية أخرى) أراضي كثيرة خلال نكسة عام 1967، لأن «الجعجعة» الإعلامية والتصريحات العنترية أفرزت «لا جاهزية» للتصدي لإسرائيل، مما مكن إسرائيل من أن تحتل الأراضي بلا مقاومة، لأن أسلوب عبد الناصر في الإدارة كان مبنيا على المحسوبية والشللية، فأوكل عبد الحكيم عامر، وهو عسكري لم تنجح جل خططه العسكرية، مهمة إدارة الوحدة بين مصر وسورية وفشل فشلا ذريعا ولم يتعظ عبد الناصر من الدرس وأبقاه في إدارة المسؤولية العسكرية حتى حدثت نكسة 1967.

كل هذا الهم وضياع الحلم تلو الآخر ومطاردة السراب والوهم وتدمير الأمل وتبديد الثروات وكسر النفسية المصرية والعربية، ألا يجعل أكبر الأجساد أن تنهار وأعتى القلوب أن تتوقف عن النبض؟ أم أنه لا بد، حتى آخر لحظة، أن نؤكد أن هناك أطرافا «أخرى» أرادت السوء بجمال عبد الناصر وقضت عليه؟ عبد الناصر توقف قلبه عن النبض لامتلاء قلبه بالخيبات والحسرات والهم الكبير، لا شيء يقضي على القلب سوى الفشل والإحساس بالعجز، وهذا تماما ما حدث، وعليه فإن الاستمرار في تكريس الصورة «غير البشرية» و«الخارقة» لعبد الناصر ولد شعورا بالشفقة أكثر منه بالإعجاب في حق الراحل، لأن شواهد التاريخ ووقائعه لا تكذب، وكل مرحلة في التاريخ الذي نعيش توابعه تؤكد ذلك. دعوا قلب عبد الناصر في سلام، لقد مات الرجل من حسرة وهم تسبب فيهما. ولكل أجل كتاب. أما الترويج لـ«آلهة السياسة» المستمر، فقدرنا نحن العرب أن يستمر العرض حتى نهاية البث، والأمر لله!

[email protected]