الحل الذي لا يجد طريقا إلى التطبيق؟!

TT

لفت نظري في مقال آرون ميللر - السياسي والدبلوماسي الأميركي الذي عمل طويلا، وفي مناصب مختلفة، في المفاوضات العربية الإسرائيلية - تحت عنوان «الدين الزائف لسلام الشرق الأوسط» الذي نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية منذ فترة ليست بعيدة، أنه وقد كفر بعملية السلام كلها، راح يعدد أسباب تخلصه من وهم «عملية السلام»، وكان من بينها أن «الحل» للصراع بالفعل متوافر، وأنه ما إن تجلس الأطراف مع بعضها البعض حتى يجد طريقه إلى التنفيذ ويحل السلام بين العرب والإسرائيليين، ويعيشون بعدها في سعادة غامرة. هذا الطرح وضع فورا على طاولة التفكير التساؤل حول المدى الذي وصل إليه الاتفاق فيما يتعلق بالمفاوضات الجارية، وحول الأسباب التي لم تجعل هذا الاتفاق يأخذ طريقه إلى الاكتمال والتوصل إلى نتيجته المنطقية وهي السلام في الشرق الأوسط.

فرغم كل الجهود والمساعي التي بذلت منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، فإنها لم تسفر عن توقيع اتفاقية سلام بين الطرفين العربي والإسرائيلي، وكانت آخر هذه الجهود ما تم التوصل إليه حول القضايا الرئيسية خلال المفاوضات التي جرت بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت في ديسمبر (كانون الأول) 2008. ففيما يتعلق بقضية الحدود، إذ أكد الطرف الفلسطيني على ضرورة تكريس حدود الدولة الفلسطينية على خطوط 4 يونيو (حزيران) 1967، مع طرح فكرة تبادل ما نسبته 1.9% بالقيمة والمثل، وهو ما قابله المفاوض الإسرائيلي باقتراح ضم 6.5% من أراضي الضفة، ومنح ما نسبته 5.8% من أراضي عام 1948، على أن تكون النسبة الباقية وهي 0.07% بدل الممر الرابط بين الضفة وغزة. أما بالنسبة للقدس، فقد طرح الفلسطينيون أن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، مع تأكيد أنها تعتبر أرضا محتلة وينطبق عليها مبدأ عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة، وهو ما قابله الإسرائيليون باقتراح ضم الأحياء العربية بالقدس الشرقية إلى الدولة الفلسطينية، مقابل اعتبار المستوطنات المقامة هناك جزءا من إسرائيل، مع طرح مفهوم لما يسمى بـ«الحوض المقدس» للتعامل مع الوضع الخاص بالبلدة القديمة. وفيما يتصل بقضية اللاجئين، أكد الفلسطينيون على حرية اللاجئ في الاختيار ما بين العودة إلى إسرائيل أو الدولة الفلسطينية أو الاستمرار في مكانه، مع تأسيس صندوق دولي لتعويض اللاجئين مهما كان خيارهم، وتأكيد أن حق العودة كفله القانون الدولي، بينما طرحت إسرائيل فكرة استيعاب ألف لاجئ سنويا لاعتبارات إنسانية، ولمدة خمس سنوات، وتحمل مسؤولية خاصة في مسألة تعويضات اللاجئين. أما بالنسبة لقضية الأمن، فقد أكدت إسرائيل على ضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن يكون هناك وجود إسرائيلي في بعض المواقع، وهو ما قابله الفلسطينيون بالتأكيد على ضرورة إخضاع كافة أراضي الدولة الفلسطينية وأجوائها ومياهها الإقليمية لسيادتها، مع قبول وجود طرف ثالث لمدة زمنية محددة، وكفالة الحق للدولة الفلسطينية في امتلاك الأسلحة التي تستطيع من خلالها تأدية مسؤولياتها.

ورغم وجود فجوات معتبرة في وجهات نظر الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، فإن صورتها على هذا الشكل لا تجعلها مستحيلة العبور، ولا مستحيلة التطبيق. ولكن وصف «الاستحالة» هنا يرتبط بنظريتين: الأولى، هي «نظرية انعدام الثقة» التي تقول إن المشكلة الأكبر بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني تكمن في عدم ثقة كل طرف في الآخر، سواء فيما يتعلق بنواياه أو أهدافه من المفاوضات، أو ما يتصل بقدرته على تطبيق ما يمكن أن تسفر عنه هذه المفاوضات من إجراءات تنفيذية. هذه الحقيقة تعكسها استطلاعات الرأي المختلفة، فقد كشف استطلاع رأي نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية أن 71% من الإسرائيليين لا يعتقدون في أن المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي أطلقت جولتها الأولى في الولايات المتحدة الأميركية في أول سبتمبر (أيلول) 2010، سوف تسفر عن توقيع معاهدة سلام، في مقابل 25% فقط يرون أن ثمة فرصة لتحقيق ذلك من خلال هذه المفاوضات. واللافت في الاستطلاع نفسه أن 36% فقط من الإسرائيليين يصدقون نوايا نتنياهو بشأن التوصل إلى اتفاق سلام، فيما يرى 56% أن قبوله بالمفاوضات كان بسبب الضغوط الأميركية التي فرضت عليه، بينما يعتقد 70% أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن شارك في المفاوضات بسبب الضغوط الأميركية أيضا.

أما النظرية الثانية فهي «النظرية الشعبوية»، التي ترى أن السلام يمثل «أزمة» أو «مأزقا»، لأن الوصول إليه يعني في المقام الأول تجاوز نمط التفاعل المعتاد بين طرفي التفاوض أو الصراع، وكسر حالة «اللا سلم واللا حرب» الموجودة على الأرض، بشكل يمكن أن يثير ردود فعل متنوعة تجاه ذلك الوضع الجديد، بعضها يحتمل أن يكون بالغ القوة أو العنف. ووفقا لهذه النظرية فإن هذه التطورات يمكن أن تنتج ثلاثة تداعيات سلبية للقائمين على هذا الإنجاز، وهو إبرام اتفاق سلام. الأولى، تدهور الشعبية، نتيجة وجود عدد غير قليل من الرافضين لفكرة «السلام مع العدو» أو تقديم تنازلات له، والتي سوف توضع حتما منذ تلك اللحظة في خانة «التفريط والخيانة». والثانية، إمكانية أن تسفر أية خطوات على صعيد عملية السلام عن حدوث حالة من عدم الاستقرار السياسي داخل الدولة أو الحكومة، خصوصا إذا كانت حكومة ائتلافية، تضم بعض الأطراف الرافضة لعملية السلام. وبالطبع، فإن هذه الحقيقة تبدو جلية في الحالة الإسرائيلية تحديدا، حيث ترفض بعض الأجنحة داخل الحكومة الإسرائيلية تقديم تنازلات في المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين. وكان ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي هو من عبر عن ذلك في تصريحات عدة، ويبدو أن هذه التصريحات تلقى قبولا لدى الرأي العام الإسرائيلي، وهو ما يؤكده استطلاع «يديعوت أحرونوت»، الذي يكشف أن غالبية الإسرائيليين (75%) ترفض تجميد الاستيطان بشكل تام، رغم تأكيد 68% أن ذلك كفيل بإفراغ المفاوضات الجارية من مضمونها. كذلك الحال بالنسبة للفلسطينيين، حيث هاجمت حركة حماس بشدة المفاوضات المباشرة التي تجري في الوقت الحالي، معتبرة إياها «تصفية للقضية الفلسطينية ولحقوق الفلسطينيين».

والثالثة، هي التعرض لتهديدات تمس الحياة الشخصية، خصوصا أن خطوات من قبيل إبرام اتفاق سلام يمكن أن تتسبب في إلصاق تهم الخيانة والعمالة لصاحبها، بشكل يمكن أن يمثل تهديدا مباشرا لحياته، نتيجة اقتناع بعض الأطراف بأن التخلص منه هو أفضل وسيلة لعقابه على ذلك، وتبدو جريمتا اغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1981، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، أفضل دليل على ذلك، حيث كان إقدامهما على اتخاذ خطوات جدية في عملية السلام سببا مباشرا في تصفيتهما جسديا واختفائهما من المشهد السياسي. فهل توجد طريقة لإقناع الشعوب بأهمية السلام، وطريقة أخرى لحماية القادة من الاغتيال حتى يصبح السلام ممكنا؟