طلاق سوداني والشاهد أميركي

TT

قبل أيام حذرت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون من أن «السودان قنبلة موقوتة تداعياتها كبيرة»، مشيرة إلى أن انفصال الجنوب بات حتميا ويجب التعامل مع الوضع على هذا الأساس. وفي الوقت ذاته نصحت الجنوب بتقديم تسويات وصفقات للشمال خصوصا في موضوع النفط «إلا إذا أراد المزيد من سنوات الحرب».

ويوم الجمعة الماضي قال سلفا كير ميارديت النائب الأول للرئيس السوداني ورئيس حكومة الجنوب، أمام اجتماع للأعضاء السود في الكونغرس الأميركي، إن مستقبل السودان «على الحافة»، مشيرا إلى أن الوحدة لم تعد خيارا جاذبا وأن كل الدلائل تؤكد أن الجنوبيين سيختارون «الاستقلال» في استفتاء التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل. وانتهز سلفا كير الفرصة ليرد أيضا على نصيحة كلينتون، فانتقد الدعوة «لشراء حريتنا»، واعتبر أنه من غير العدالة مطالبة الجنوبيين بتسليم الشمال غالبية احتياطياتهم النفطية.

في اليوم ذاته وزعت السفارة السودانية في واشنطن نصا كتبه النائب الثاني للرئيس السوداني علي عثمان محمد طه، وهو المشرف على ملف الجنوب، أشبه برسالة موجهة للإدارة الأميركية بوصفها أحد الرعاة والمحركين الذين وقفوا وراء اتفاقية السلام السودانية الموقعة عام 2005، والتي على أساسها سيجرى الاستفتاء المقبل. وفي رسالته يدعو طه إدارة أوباما للتحرك في الفترة المقبلة و«لبداية جديدة في العلاقات الأميركية - السودانية» تقوم على رفع العقوبات ووقف الضغوط، مع إيحاءات بوقف ملاحقة الرئيس عمر البشير خصوصا أنه الشخص «الذي يسيطر على قرار الحرب والسلام»، على حد ما ورد في الرسالة.

هذه المواقف تجيء في وقت تكثف فيه الإدارة الأميركية تحركاتها في ملف استفتاء جنوب السودان، بعد أن أدركت أن الوقت يمضي سريعا، إذ لم يتبق على الموعد سوى 109 أيام، بينما المشاكل تتراكم والمؤشرات تبعث على القلق من أن عدم التوصل إلى حلول شافية وواضحة لملفات مثل الحدود والنفط والمياه والعلاقات، قد يؤدي إما إلى تعطيل الاستفتاء أو إلى «طلاق صاخب» في ظل مشاكل عالقة، والنتيجة في الحالتين ستكون حربا دامية.

الواقع أن التحرك الأميركي جاء بعد فترة من التردد والتذبذب والخلافات في إدارة أوباما حول الملف السوداني، لم تحسم إلا بعد الجولة الأفريقية التي قام بها نائب الرئيس جو بايدن في يونيو (حزيران) الماضي وكان الموضوع السوداني على رأس أجندتها. والتقى بايدن خلال توقفه في كينيا مع سلفا كير وبحث معه «مستقبل الجنوب»، مؤكدا دعم الإدارة الأميركية لإجراء الاستفتاء في موعده وتعهد بتقديم الدعم للجنوب، مع نصيحة للقادة الجنوبيين بأن يسعوا لحل المشاكل العالقة مع الشمال قبل موعد الاستفتاء.

تلك الزيارة وما أعقبها من اجتماعات داخل إدارة أوباما حسمت الخلافات والتردد لصالح استراتيجية تقوم على الضغط على الخرطوم لتنظيم الاستفتاء في موعده، وعلى جوبا لضمان إجرائه في «أجواء حرة ونزيهة»، والأهم من ذلك اتباع سياسة «المحفزات أو العقوبات» مع الحكومة السودانية لضمان تعاونها في موضوع الاستفتاء، الذي يبدو أنه بات يتقدم على موضوع دارفور في سلم الأولويات في واشنطن. ومن هذا المنطلق وضعت الإدارة الأميركية خطتها لرفع العقوبات عن السودان تدريجيا ووفق خطوات محسوبة يسبق بعضها موعد الاستفتاء، لتحفيز الخرطوم على الالتزام بموعد 9 يناير، ويأتي جلها بعده لضمان اعترافها بنتيجته، خصوصا إذا كانت النتيجة هي الانفصال.

في إطار هذه الاستراتيجية أيضا قرر أوباما حضور الاجتماع المخصص للسودان على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الجمعة المقبل. وهو بذلك يريد نقل رسالة مفادها أن الإدارة الأميركية على أعلى مستوياتها تعطي موضوع السودان واستفتاء الجنوب أقصى اهتمامها، كما أنه يريد أن يدفع عن نفسه الانتقادات الواسعة التي وجهت له في واشنطن من أنه تخلى عن وعده إبان الحملات الانتخابية للرئاسة بإعطاء الملف السوداني اهتمامه بعد انتقاده لإدارة بوش بأنها لم تتحرك بشكل كاف أو ضاغط في الملف.

هناك بعد آخر في التحرك الأميركي مبعثه قلق شديد من تجدد الحرب في السودان بشكل أكثر دموية بعد أن عزز الجنوب تسليحه خلال الفترة الماضية، وخوفا من أن تتوسع الحرب وتجر إليها دول الجوار فيعم الاضطراب المنطقة، خصوصا مع وجود حركة تمرد في أوغندا، وتوتر بين إثيوبيا وإريتريا وانهيار في الصومال. يضاف إلى ذلك أن ما سيحدث في السودان بعد الاستفتاء ستكون له انعكاسات أبعد، إقليميا ودوليا. فالانفصال سيفتح ملفا ملتهبا في منطقة فيها العديد من الأقليات والكثير من التداخل العرقي والديني والقبلي، والحدود «الفضفاضة». كما أن الجنوب «المستقل» يحمل في جيناته بصمات مشاكل مستقبلية محتملة تثير مخاوف من «رواندا سودانية»، وبالتالي فإن الانفصال لا يعني إقفال الملف، بل إن هناك الكثير المطلوب لضمان الاستقرار، ومنع انفجارات سببها النفط أو المياه أو التوترات القبلية والحدودية.

«الطلاق» السوداني واقع لا محالة، إذا أخذنا بالمؤشرات الراهنة، والشاهد سيكون أميركيا برغبة الطرفين، أما المتفرج فسيكون عربيا بامتياز، وهذا موضوع آخر.