اضحك يا بني آدم

TT

كنت طفلا حينما وقفت أمام الكاميرا ليلتقط لي المصور الوحيد في مدينة جدة آنذاك الصورة الأولى في حياتي، وكانت بساطة الزمن تنعكس على كل شيء داخل الصورة وخارجها، فالمصور المتوتر يدخل رأسه في جراب من القماش الأسود لدقائق استعدادا لالتقاط الصورة، ويأتيك صوته آمرا من داخل الجراب:

- «در رأسك إلى اليمين.. افتح عينيك»، وقد ينفجر غاضبا: «اضحك يا بني آدم».

فتبحث له من بين ركام طفولتك عن ابتسامة مخبوءة تسكته بها.

كنت في تلك الصورة ذلك الطفل الصغير الذي يرتدي حذاء بلاستيكيا رخيصا، ويغلق رقبة ثوبه بمشبك معدني لخلوه من الزراير، ولم تستطع مهارة المصور إخفاء بقع الآيس كريم من الثوب الأبيض. كنت أقف بجوار طاولة عليها مزهرية، تطل منها زهور ورقية ملونة لا تشبه أي أنواع الزهور في الطبيعة، وكانت مدينتنا لا تعرف الزهور، وتخلو من كل أنواع الأشجار باستثناء ثلاث شجرات «نيم»، نبتت في غفلة من الجفاف.

ومرت بضعة أعوام قبل أن يهزم ذلك المصور بالضربة القاضية، حينما قام آخر بافتتاح أستوديو مجاور، وكان المصور الجديد أكثر ذكاء، فزود محله بمعاطف، وعمائم، وقبعات، ورابطات عنق، وساعات، وخواتم، ونظارات، يتجمل بها الناس قبل التصوير، محققا بذلك مبدأ العدالة والمساواة بين الناس أمام الكاميرا، وجل الصور التي التقطت للناس في تلك الأيام ينعكس عليها ثراء خزانة ذلك الأستوديو، وإن ظلت الساعة «جوفيال»، وقلم الـ«باركر»، والخاتم الفضي، علامات مشتركة في الكثير من الصور التي التقطت للشباب في ذلك الزمان، ومنهم كاتب هذه السطور. وتطورت محلات التصوير بعد ذلك فأصبحت تقوم بتلوين الصور «الأسود والأبيض» بالفرشاة والألوان، فغدونا جميعنا بقدرة قادر أصحاب عيون ملونة، وخدود موردة، وبشرة ناصعة البياض.

وفي رواية «لا يوجد مصور في عنيزة» لخالد البسام يشير إلى أن الهويات في الزمن القديم التي تصدر لسكان عنيزة كانت خالية من الصور، وكان يخط في المكان المحدد للصورة «لا يوجد مصور في عنيزة»، وهي إشارة مقنعة لصلاحية الوثيقة في ذلك الزمن الذي تسوده الثقة، وتظلله الطمأنينة.

والحديث عن الصورة يقودنا إلى حماسة عزيزنا الناقد الكبير الدكتور عبد الله الغذامي تجاه ثقافة الصورة باعتبارها الأكثر انتشارا وشيوعا وتأثيرا، ليصدق عليها القول: «الأدب برجوازي أما الصورة فديمقراطية».

فلتحيَ عدالة الصورة.

[email protected]