قضية حرص

TT

إنها مناسبة ماسية للإعراب، مرة أخرى، عن التقدير الشديد، وفي لغة مفوضية الدعاية في الحزب الشيوعي، عن التثمين عاليا، للحرص العربي المتجذر (أيضا بلغة المفوضية) على الدقة ولغة الأرقام. قالت منظمة حقوق الإنسان إن في العراق 30 ألف سجين سياسي، فرد وزير الداخلية على الفور: الرقم مبالغ فيه!

رحت أفكر في حجم المبالغة وفي الرقم الحقيقي غير المبالغ فيه: 29999 سجينا؟ 29500؟ 28 ألفا؟ بعد النفي، أو التصحيح الرسمي، كررت المنظمة أرقامها. ولا نزال في انتظار التوضيح الرسمي، في بلد أحرق وفكك وفتت، بدعوى أن صدام حسين وسع السجون وعمق المقابر. وما يثلج الصدر فعلا ويعزز الثقة ويخفف الأسى، تعبير آخر عن جوهر العراق الجديد، وهو تصريح نوري المالكي لـ«الحياة» قبل أن يمضي يوم على تصريح وزير داخليته، وفيه يقول، لمن له عينان تقرآن وأذنان تسمعان إنه، دولة المالكي، «لا يحتكر السلطة ولن يسلمها إلا وفق الدستور والقانون».

وداعتك! إلا وفق الدستور والقانون. إرثا عن إرث، وأبا عن جد، وحزبا عن حزب. سبقنا العراقيين من زمان إلى «الحرص» على الدستور والتقيد بنصوصه وبنوده وطبعا روحه. والحقيقة أن الدساتير العربية فقدت روحها وحفظت نصوصها في خزائن حديدية مرمزة، لا يحل رموزها إلا الذين سهروا على تشريد الملايين ومشوا في جنازات مئات الآلاف.

استعرنا كلمات نزين بها الجدران. وخصوصا جدران السجون. منها القانون ومنها الدستور ومنها حقوق الإنسان. لكن لا يزال مطلوبا ليس الاعتراف بحقوق الإنسان وإنما بالإنسان نفسه. وفي ردها على دقة الوزير ذكرت المنظمة الدولية أن الأميركيين وحدهم جروا للسجون العراقية عشرة آلاف شخص. أقصد طبعا من السجون الديمقراطية الأميركية، أبو غريب وسواه.

من الأفضل لنا أن نتوقف عن استخدام الكلمات واللجوء إلى لغة الإيماءات. هذا أشرف للغة وأسلم للجميع. وإلا كيف نكتب أن مدينة تاريخية بأكملها، بأهلها وتاريخها وآثارها ومعابدها وأطفالها ومستقبلها ونضالها عبر الزمن، «تشرفت» بقدوم زعيم يفترض أن يزور مدن بلاده؟ عمموا لغة الإيماءات. لعل فيها جديد لم يكرر ملايين المرات. لعلها تقنع الناس أكثر قليلا مما فقدت اللغة القدرة عليه. لعلها أخف ثقلا على صدر الأمة.