المملكة العربية السعودية.. نهج يستحق الاقتداء

TT

عندما أراد الجيبوتيون أن يحصلوا على استقلالهم لجأت حركتهم النضالية من أجل الاستقلال إلى عدد من الدول الشقيقة والصديقة لدعمهم في مطلبهم المشروع، فكانت المملكة العربية السعودية على رأس هذه الدول، وبعد أن ظفر الشعب الجيبوتي باستقلاله الناجز في السابع والعشرين من شهر يونيو (حزيران) 1977 لم تدخر المملكة العربية السعودية وسعا في تقديم الدعم الاقتصادي والدبلوماسي والسياسي والمالي المباشر الذي أسهم إسهاما غير محدود في أن تقف الدولة الوليدة على قدميها شامخة.

وامتد هذا الدعم ليبلغ مجالات كثيرة، منها التعليمية والثقافية، فأنشأت المملكة معهدا علميا تابعا لجامعة الإمام محمد بن سعود، كان له دور مؤثر وبارز في تثقيف أجيال كثيرة من أبناء جمهورية جيبوتي بالثقافة العربية والإسلامية الأصيلة المتوازنة في منهجها، مما كان له كبير الأثر في المحافظة على سلوكيات النهج المعتدل الفريد الذي تميز به الشعب الجيبوتي العربي المسلم، فارتقى عدد من خريجي هذا المعهد اليوم مناصب هامة في الدولة، كما أنشأت مدرسة سعودية أخرى كان لها دور رديف لهذا المعهد.

ولم يقف الدعم عند هذا الجانب، بل امتد إلى نواحٍ أخرى في الحياة الاجتماعية والإنسانية، وكان أكثر عطاء في الجوانب الاقتصادية، واستمر دون انقطاع، سواء في ما يقدم مباشرة أو عبر الصندوق السعودي للتنمية، بالإضافة إلى الهيئات السعودية المختلفة العاملة في المجالات الدعوية والإغاثية والثقافية، كالندوة العالمية للشباب الإسلامي، أو رابطة العالم الإسلامي، أو لجنة الأمير سلطان الخيرية، وغيرها من أذرع الخير السعودية الكثيرة التي عمّ فضلها أرجاء المعمورة لعقود طويلة من الزمن.

وقد ظلت العلاقة بين البلدين العربيين المسلمين والجارين متميزة في كل المراحل التاريخية منذ استقلال جمهورية جيبوتي حتى يومنا هذا، حيث كان البلدان دائما وأبدا في صف واحد تجاه كل القضايا الإقليمية والدولية، وقد كررت الحكومة الجيبوتية ورئيسها التعبير عن الشكر والعرفان للمملكة في كل المحافل والمناسبات.

لا أريد الوقوف طويلا عند العلاقة بين جيبوتي والسعودية، فلربما لا يعني ذلك القارئ الكريم كثيرا، ولكن ما أريد قوله هنا هو أن المملكة العربية السعودية ومن خلال نموذج العلاقة بينها وبين جيبوتي، والتي كنت شاهدا عليها عن كثب، كانت متميزة وراسخة وكان عطاء وخير المملكة دفاقا دون انقطاع، وهذا الأمر ينطبق على علاقة المملكة العربية السعودية بغيرها من دول شقيقة وصديقة، حيث تُرسخ معها سلوكا في التعامل والتعاون والدعم، فنجد المدارس والمعاهد والمساجد والطرقات والمنشآت الممولة سعوديا حاضرة في كل بقاع العالم من الشرق إلى الغرب إلى الشمال إلى الجنوب، وبطبيعة الحال حققت السعودية من خلال ذلك الكثير من الاحترام والتقدير، بل أيضا كسبت ولاء هذه الدول وحبها لهذا التعامل الراقي في العلاقة السياسية، مما يجعل هذه الدول في انبهار وإعجاب يفرض بالمقابل أيضا تعاونا وتنسيقا ومواقف متفاعلة مع كل ما له شأن أو مصلحة سعودية.

في تقديري تلك هي السياسة الخارجية الحكيمة التي جعلت السعودية اليوم في مصاف الدول العظمى، تُحترم من قبل الكبير والصغير والغني والفقير والقريب والبعيد.

قد يقول البعض إن المملكة العربية السعودية قد تبوأت موقعها المرموق إقليميا ودوليا بفضل المكانة الدينية والروحية لكونها قبلة المسلمين وفيها الكعبة المشرفة وثرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى إمكاناتها الاقتصادية باعتبارها واحدة من كبرى الدول المنتجة «للنفط» المحرك الرئيسي لطاقة العالم.

أقول إن المكانة الدينية كقبلة للمسلمين قد كَرست المملكة فعلا قائدة وألقت على عاتقها مسؤوليات جساما، كانت ولله الحمد على قدرها، وما النجاحات العظيمة في توسعة الحرمين الشريفين ومد الطرقات وإنشاء الجسور وتقديم أفضل رعاية للحجيج والمعتمرين وتوفير سبل الراحة لهم بممارسة شعائرهم وأداء نسكهم بطمأنينة وأمن وأمان على أفضل وأكمل وجه، رغم تجمع ما يفوق عن 3 ملايين شخص وأكثر على مساحة أرضية صغيرة في فترة زمنية قصيرة، إلا دليل عظيم على هذا النجاح الباهر.

أما في ما يتعلق بالمكانة الاقتصادية فبتقديري أنه لا ضير في ذلك، فالغني والكبير في عرف بني الإنسان له مكانة مقدرة عن سواه لما للمال من أهمية بالغة في تسيير حياة البشر والدول، ولكن البرهان هنا هو كيفية تطويع المال وتسخيره ليخدم الغايات النبيلة في التطور والتقدم والتنمية التي يحتاج إليها الإنسان، فاقتصادها متين ومتماسك وقوي منذ تأسيسها، يزداد كل يوم رسوخا في جذور الأرض ويتجه ازدهارا نحو العلا.

كما أن هناك أمرا هاما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، وهو سياسات السعودية الخارجية الحكيمة والمتوازنة في التعاطي مع مختلف القضايا الإقليمية والدولية، دون أن يكون في ذلك إضرار بالمبادئ والقيم الحميدة التي قامت عليها أركان هذه الدولة. فالسعودية كانت يدها دائما ممدودة بالخير والعطاء غير المحدود للقاصي والداني، لم تتقاعس عن مصيبة ابتلي بها أحد في أي مكان، كما لم تتأخر عن ملهوف طرق بابها، بل كان ديدنها أن تفزع للغير في الملمات، وخير شاهد أمام أعيننا الدعم والمساعدات الإغاثية الكبيرة التي قدمتها مؤخرا لباكستان في محنة الفيضانات، والجسر الجوي الضخم الذي أقيم من قلب المملكة إلى المناطق الباكستانية المنكوبة.

لذا أتشرف وأنا عربي مسلم شهدت عطاء السعودية وعشت وجدانيات قيادتها وفكرهم الخلاق المتعاطي مع الغير بفهم الإسلام وتعريفه لأسس التعامل مع الآخر أيا كان موقفه، والمتفاني في الإخلاص بما لا يقل عن حبهم لوطنهم وشعبهم، فكانوا بحق نموذجا في الأممية بمفهومها الإسلامي المفعم بالرقي، الذي تفتقر إليه كثير من المناهج السياسية في عالمنا المعاصر، فعرفنا سياساتها شفافة، واضعة نقاطها على الحروف، جلية لا تحتاج إلى توضيحات لما بين السطور.

إن السياسة الجادة لا يمارسها إلا القادر عليها بفطنة وقوة وذكاء وقدرة على التعامل مع المتغيرات والظروف في إطار الثوابت والمبادئ، ذلكم هو النهج الذي سلكته الحكومة السعودية منذ فجر تأسيسها على يد المغفور له بإذن الله تعالى الملك عبد العزيز ومن بعده أبناؤه البررة، نابعة هذه السياسة من مبادئ الدين الإسلامي الحنيف الذي حملت دولتهم لواءه وذادت عن حماه وحفظت شريعته موقرة عزيزة مهابة.

كما يجب الوقوف باحترام وتقدير للسياسات الفاعلة للملك السعودي المعاصر عبد الله بن عبد العزيز، والتأمل في ما قاله عن واقع العرب وضرورة الالتفاف إلى مطالب شعوبهم بكل جدية وصدق، في كلمته الافتتاحية في مؤتمر القمة العربي الاعتيادي في الرياض في عام 2007، أو كلمته في مكة المكرمة، التي دعا فيها المسلمين إلى ضرورة تفعيل قيم الإسلام في محاورة الحضارات الأخرى وتعريفها بعظمة الإسلام الذي لا يرفض الآخر، بل يتعايش معه إيجابيا. أو ما فاجأ الجميع به في كلمة ضافية أعادت الأمور إلى نصابها واعتبرت فتحا مبينا في العلاقات العربية - العربية عندما مد يده مسامحا ومصافحا ومتجاوزا في قمة الكويت الاقتصادية العربية في عام 2008.

وطبعا لا يمكن أن تُغفل في خضم إنجازات الملك عبد الله العدد المتزايد من الجامعات وعلى رأسها جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، التي تحتل مكانة واعدة بين جامعات العالم البحثية، وجامعة الملكة نورة تنشأ كصرح علمي جديد شامخ يشق طريقه ليكون بدوره أيضا نموذجا جديدا من نماذج العلم الزاهرة، واحتلال جامعتي الملك سعود والملك فهد للبترول والمعادن مكانتهما بين أفضل 500 جامعة في العالم هو أيضا نموذج آخر من نماذج الرقي الذي تشهده المملكة في جانب التعليم وبناء الإنسان، وقس على ذلك الأعداد الضخمة من الشباب المبتعثين لتحصيل العلوم في مختلف جامعات ودول العالم ليعودوا بدورهم مزودين بما يمكن أن يكون طاقة دفع أخرى في محركات التنمية الزاهرة، وغيرها من منجزات ومدن اقتصادية أخرى تُعلَّق عليها آمال كبار لتخدم السعودية وغيرها. إذن لم يكن اختيار مجلة «نيوزويك» مؤخرا لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ضمن قائمة أكثر عشرة زعماء كسبوا احتراما عالميا عن فراغ، بل هي مكانة طبيعية ونتيجة واقعية.

كما أنه بفضل مكانة دبلوماسيتها الفاعلة والمتميزة وتوازن سياستها الخارجية إقليميا ودوليا، فقد احتضنت بين ظهرانيها الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في الرياض، والأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة، وبعضويتها 57 دولة، وهي ثاني أكبر منظمة عالمية بعد الأمم المتحدة من حيث عدد الدول الأعضاء، وإلى جوارها البنك الإسلامي للتنمية، ومنظمة إذاعات الدول الإسلامية، ومجمع الفقه الإسلامي، والهيئة الإقليمية للحفاظ على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن.

هذا غيض من فيض عما حققته السعودية من مكانة هامة في سياساتها الداخلية والخارجية. أليس إذن من المجدي استنساخ سياساتها والإقتداء بها؟

* دبلوماسي جيبوتي