«حفلة جنون» على شرف المحكمة الدولية

TT

«حفلة الجنون الإضافية» التي تحدّث عنها نائب حزب الله محمد رعد قائلا بأنها ستعصف بلبنان في الأسابيع والأشهر المقبلة، لا بد آتية، وإن بدا أن هدنة أو أكثر، تقطع الهستيريا السياسية في بلاد الأرز. النقطة المحورية التي لا تزال تثير الزوابع منذ خمس سنوات هي «المحكمة الدولية» الخاصة بالحريري. حزب الله يركز بكل ما أوتي من قوة على نزع المصداقية عن «المحكمة»، حتى يعريها بالكامل ويتركها تنكسر أمام عصف الريح. أما سعد الحريري فيضغط باتجاه الدفاع عن المحكمة، مؤكدا أنها خرجت من بين يديه وباتت في عهدة المجتمع الدولي، مع تحييد سورية عن الصراع الدائر في لبنان، واعتبار هجوم جميل السيد عليه والمعارضة عموما، مشكلة داخلية. وهي وجهة نظر ربما لا تستطيع سورية نفسها أن تقتنع بها ضمنا، وإن تبنتها جهرا.

بعيدا عن الشتائم المرافقة لحفلات الجنون المتواصلة التي بلغت حد تشبيه عقاب صقر، (أحد نواب المستقبل البارزين) بـ«القبوط» أو «الحشرة»، وقذف هذا الأخير جميل السيد (حليف حزب الله) بتهمة «الرشوة» واللعب على الحبال، فإن الغلبة قد تكون في نهاية المطاف كما قال نائب حزب الله نواف الموسوي لمن «يقارع البرهان بالبرهان والحجة بالحجة». وهذه لعبة ستكلف اللبنانيين شهورا وربما سنينا إضافية من التضحيات الجسام، إذا ما بقيت مترافقة مع التوظيفات المذهبية، السارية المفعول منذ عام 2005.

تبرئة سورية بعد اتهامها لمدة خمس سنوات بمقتل الرئيس رفيق الحريري، وتوجيه أصابع الاتهام صوب حزب الله، ثم اعتراف سعد الحريري بأن اتهام سورية بمقتل والده كان خطأ وقوله إن «شهود الزور، خربوا العلاقة بين البلدين وسيسوا الاغتيال» ثم شرحه بأنهم «ألحقوا الأذى بسورية ولبنان، وبنا كعائلة الرئيس الشهيد، لأننا لا نطلب سوى الحقيقة والعدالة».

كل هذا ربما جعل حزب الله ومعه سورية يفترضان خطوات تنفيذية سريعة من الحريري بكشف الغطاء عمن يعتبرونهم شهود زور، لتبرئة ساحة الحزب. خاصة أنه قال في مقابلته الشهيرة مع «الشرق الأوسط» حرفيا إن «لبنان يتعامل مع هذا الأمر قضائيا» وهو يقصد شهود الزور. ولما تأخرت الخطوة المنتظرة بدا وكأن صبر المعارضة قد نفد، ولا بد أن تضغط كي تحصل على ما تريد. هجوم جميل السيد شديد اللهجة على سعد الحريري الذي اعتبر تهديدا معلنا، جاء من باب دفع الحريري لتنفيذ ما قال به. لكن الحريري رد على السيد بمطالبة قضائية، هو ضغط آخر بالاتجاه المعاكس، لتصل المعركة ذروتها باستعراض قوة استثنائي لحزب الله في مطار بيروت، عندما استقبل نواب الحزب جميل السيد تحت أعين قوى الأمن، ونقلوه إلى منزله، دون أن يتمكن أحد من توقيفه أو التحقيق معه.

وقال جميل السيد صراحة: «خمس سنوات وأنا أطالب بمحاسبة شهود الزور عبر القانون، لكن يبدو أنك عندما تلجأ إلى القانون في بلد مثل لبنان فإن المسؤولين في الدولة يستخفون بك إلا إذا كان معك دعم سياسي وشعبي».

استعراض القوة بين الطرفين، حزب الله الذي يعتبر أن المحكمة ما هي إلا وسيلة للقضاء على المقاومة، والحريري الذي يرى مناصروه في ما يحدث محاولة للانقلاب عليه كرئيس للوزراء وعلى الدولة، وتحجيم الطائفة السنية فيها، هو كباش لا يحل بالتهجم والتهجم المضاد.

صحيح أن الحريري قام بخطوة لم يستكملها عندما تحدث عن «شهود الزور» دون أن نرى أي إجراء عملي يترجم خطابه، لكن حزب الله لا شك يعرف أن استخدام سطوته بالشكل الاستعراضي الذي رأيناه لاستقبال جميل السيد ليس في صالحه، ولا يخدم قضيته في توحيد الشعب والجيش والدولة وراء المقاومة.

ارتكب فريق 14 آذار أخطاء قاتلة، يوم كان في عزة، وظن أن القوة في لبنان والصوت المرتفع، كافيان لجلب النصر المستدام، ويقع حزب الله في الفخ ذاته، ويرتكب الخطيئة عينها، لو بقي تصعيده متواصلا، وهجومه عالي النبرة استفزازيا على النحو الذي هو عليه الآن.

صحيح، لا بل أكيد، أن المشكلة في صلبها سياسية وليست طائفية أو مذهبية، كما يحلو للبعض توصيفها، وهو أخطر ما يحدث حاليا، لكن ثمة من يتصيد المناسبات لإشعال الفتن، وهو ما يعرفه حزب الله جيدا. الاستفادة من الظروف المؤاتية، إقليميا ودوليا، لتسجيل ضربة قاضية إلى المحكمة الدولية، ليس بالأمر السهل. واستعجال انتزاع المكاسب، من دون مراعاة الحساسيات المذهبية، سينقلب خرابا على الجميع. لبنان بلد التوازنات الصعبة، واختلال الميزان، لصالح هذه الجهة أو تلك بشكل فاضح، لن يسعد إلا أعداء لبنان. وهؤلاء ليسوا، حتما، أنصار حزب الله أو نوابه، كما قال أحد النواب السنة، وكأنه فقد عقله. أعداء لبنان، هم الإسرائيليون الذين يطلقون النار فوق رؤوس الجيش اللبناني من الجهة الثانية من الحدود، كلما ملأ قلوبهم الحقد وطفحت الضغينة، بينما أبناء البلد المستضعف لا يملكون لجيشهم الهمام في خضم نزاعاتهم أكثر من الغناء والتصفيق والتلويح بالأعلام.