ظواهر التفكك في المجتمعات والدول العربية

TT

في لبنان سارع مسلحون وحزبيون من حزب الله إلى دخول مطار بيروت لاستقبال اللواء المتقاعد جميل السيد العائد إلى بيروت بعد أن غادرها مع أسرته قبل أيام على أثر هجومه اللاذع على رئيس الحكومة اللبنانية والقضاء والأمن. وفي السودان قال الوسيط القطري إنه قد ينجح آخر هذا الشهر في الجمع بين ممثلي «ثوار» دارفور وممثلي الحكومة السودانية العتيدة. وفي السودان أيضا قال فريق جنوبي إنه يريد دولتين بالبلاد مع بقاء «نظام مشترك». وفي العراق تتوازى وتتوالى الأحداث الأمنية الدامية مع التجاذبات المستمرة منذ ستة أشهر لتشكيل الحكومة العراقية. وفي اليمن تكافح قوات الجيش والأمن على ثلاث جبهات: جبهة القاعدة، وجبهة الحراك الجنوبي، وجبهة الحوثيين. وفي الكويت والبحرين، تتوالى الأحداث ذات الأبعاد الطائفية والمذهبية، وتكتشف شبكات تخريب تعمل بالداخل لصالح هذه الجهة أو تلك.

ليس المقصود بهذا التعداد إيضاح أهوال التفكك وتعدد جبهاته؛ بل وبالإضافة إلى ذلك، قراءة دلالاته على طبائع المشكلات التي تعانيها الدول بل والمجتمعات العربية. لقد سال حبر كثير خلال العقدين الماضيين على دراسة مشكلات «الدول» العربية، والتجربة السياسية العربية. وقيل الكثير عن «القضايا المستعصية» في مسار ومسيرة هذه السلطة أو السلطات: من تعطل تداول السلطة، إلى الافتقار للتنمية، وللحريات الأساسية، وتضاؤل القدرة على حماية المصالح الوطنية والقومية. بل وقيل أكثر عن التدخلات من جانب السلطات في البنية الأساسية للمجتمعات مما يؤدي إلى التفكك والشرذمة بمسوغ ومن دون مسوغ. وهذا فضلا عن ازدياد الفقر، الذي يدفع بالاتجاه ذاته.

وإذا كان سوء تصرف الإدارة السياسية أو الإرادة السياسية، وراء الكثير من ظواهر الحاجة والشرذمة؛ فلا يمكن تجاهل ظاهرة أخرى أو ظواهر أخرى تتعلق بالبنية الاجتماعية العربية، وانحلالها إلى عناصرها الأساسية التي تبدو اليوم متقوقعة ومتنافرة ومتمردة في الوقت ذاته. والواقع أن ظواهر التفكك والتشرذم الحالية على المستوى الاجتماعي برزت في المرحلة الإسلامية في العقدين الأخيرين، من دون أن تخلو منها المرحلة السابقة التي اعتبرت مرحلة «قومية». ومما له دلالته أن المرحلة القومية تلك، إنما بدأت بانقلابات عسكرية على أثر الاستقلال عن الاستعمار. ويومها سيطرت أفكار الوحدة على كل المستويات، والاندماج الاجتماعي من دون تمييز. وهذه الاندماجية الشديدة التي اتخذت أبعادا إثنية وعرقية ولغوية، تمردت عليها عناصر من الطبيعة ذاتها، مثل الأكراد والأمازيغ، وحتى بعض الحركات في جنوب السودان، وإريتريا والصومال. ومن طلائع الحالة الإثنية في تلك المرحلة المذبحة التي نزلت بالعرب في جزيرة زنجبار (التي صارت جزءا من تنزانيا) وبعض نواحي شرق أفريقيا. والطريف أن تلك الأيديولوجيا الوحدوية الشديدة، ما استطاعت إنجاز اتحاد واحد ناجح بين الأقطار العربية رغم كثرة المشاريع والمحاولات. وقد انتهى الأمر كما هو معروف ببقاء الأنظمة وخلودها، وتحول حركات المعارضة الإثنية إلى مشاريع انفصالية، وانصراف الجمهور العربي عن الأنظمة الخالدة إلى «الحل الإسلامي».

وما نجح الحل الإسلامي على المستوى السياسي، لأنه لا يعرض بديلا عصريا، ولتناقضه في الروح والشكل مع النظام الدولي السائد. لكنه توطن في المجتمعات، التي ازدادت تناحراتها مع السلطات، فظهرت أنواع جديدة من الانقسام، بعضها ناجم عن الاصطدام بالأنظمة، وبعضها ناجم عن طبائع الإسلام الجديدة الانقسامية، وبعضها الثالث ناجم عن الإشعاعات والتدخلات الخارجية.

في مجال الطبائع المغايرة لإسلام الحركات الإسلامية، ظهرت فكرتان إحداهما ثقافية موروثة من المرحلة القومية، والأخرى دينية. أما الفكرة الثقافية، فهي تعادي التغريب والغزو الثقافي، وتبحث عن الثقافة الأصيلة. وكما سبق القول؛ فإن الفكرة ظهرت في الزمن القومي، وكانت بين أسباب انقضائه، إذ إن الثقافة الأصيلة ليست شيئا غير الإسلام. إنما التقليد الهادئ والمسالم كان قد تراجع، ولا يمكن استعادة نشاطه، فظهرت من ضمن حركة الصحوة الدعوة الجديدة ليس للإسلام وحسب؛ بل وللإسلام الأصيل والصحيح والمستقيم؛ وهذه هي الفكرة الثانية، والتي اتجهت قبل معاداة الأنظمة إلى التصادم مع التقاليد ومع المؤسسات الدينية باعتبارها بالية وعاجزة ومخامرة للاستعمار الثقافي وللأنظمة. وبذلك فقد دفعت حركات الإسلام الحزبي باتجاه ظهور حركات إسلامية مضادة، انقسمت في النهاية على ظهر الجمهور في ثلاثة اتجاهات رئيسية: الإحياء الإخواني، والإحياء السلفي، والإحياء الصوفي. وقد اصطدم الإحياء الأصولي الإخواني بالسلطات أولا، لأنه امتلك مشروعا سياسيا، ثم تمرد قسم من السلفيين أيضا، وما بقي للسلطات غير اللجوء للتصوف الذي ما شن حروبا داخلية بعد، باستثناء ما يقال عن نشاط مسلح للنقشبندية بالعراق!

ويمكن القول تجاوزا، إن الانقسامات السابقة، كانت ضمن أهل السنة، سلطات وحركات. بيد أن السنوات الأخيرة شهدت ظهور توترات بين السنة والشيعة في كل مكان تجاور فيه الطرفان في الماضي والحاضر. واليقظة الشيعية سابقة في الأصل على قيام الثورة الإسلامية في إيران. وكانت لها أبعاد إصلاحية وأخرى أصالية أو إحيائية شأنها عند السنة. لكنها اتخذت أشكالا جديدة، إما بالتأثير العام للثورة الإسلامية، أو بتقصد التأثير المباشر في السياقات الإقليمية والدولية. وعلى ذلك شواهد في العراق ولبنان والبحرين والكويت واليمن ونيجيريا وباكستان. ويتخذ هذا الانقسام أحد شكلين: الصدام بين المتشددين من الطرفين في الشارع، والصدام بين الطائفة والسلطات التي لا تكون علاقاتها بالجمهورية الإسلامية على ما يرام.

ويدخل لبنان في هذا السياق للتشرذم والتفكك؛ وإن تكن لذلك خصوصيات وسوابق أقدم. ففي لبنان عشرات الطوائف الدينية والمذهبية؛ وإنما أبرزها ثلاث: الطائفة المارونية المسيحية (ولها رئاسة الجمهورية)، والطائفة الشيعية (ومنها رئيس البرلمان)، والطائفة السنية (ومنها رئيس الحكومة). ومنذ انحسار النفوذ العثماني عن بلاد الشام (1917 - 1919) ما سلم كثيرون بالطابع الوطني والقومي للدولة اللبنانية، التي ظلت الغلبة على السلطة فيها للموارنة. لكن دخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان بدعم من الجمهور الإسلامي وبخاصة السني دفع باتجاهين: الحرب الأهلية، والاجتياح الإسرائيلي. وقد أمكن ضبط التوترات باتفاق الطائف (1989)، والتوافق السوري السعودي. لكن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تدخلت في لبنان بشكلين: دعم تنظيم شيعي في مقاومة إسرائيل، ثم استخدام ذلك التنظيم بعد عام 2000 في الصراع الإقليمي والدولي. ولذلك، وبعد أحداث هذا الأسبوع، التي أظهرت غلبة من جانب حزب الله على الدولة ومؤسساتها، شاع في السوق السياسية التعبير أن لكل طائفة كبرى في لبنان «جهلة»، تدفع ثمنها غاليا، بعد أن يكون البلد كله قد دفع أثمانا أفدح: جهلة الموارنة أحضرت السوريين والإسرائيليين، وجهلة السنة دفعت ياسر عرفات لمحاولة تحرير فلسطين من بيروت، وجهلة الشيعة أعادت «العين» الإسرائيلية الحمراء، وفككت السلطة، ونشرت التوتر المذهبي والطائفي.

وهكذا، هناك اليوم في العالم العربي مرضان وليس مرضا واحدا: الإدارة السياسية السيئة (وهي المعلم الباقي من المرحلة القومية)، والانقسام الاجتماعي (وهي المعلم البارز للمرحلة الإسلامية). ولله في خلقه شؤون.