تفاوت السرد

TT

يستفيض الأستاذ حسنين هيكل في برنامجه الأسبوعي على «الجزيرة» في سرد تاريخ العرب الحديث، وكأنه تاريخه الشخصي. فهو حاضر في كل حدث، شاهدا أو فاعلا. أو على الأقل قريب من الأشياء، عالم بها، عارف بما لم يقدّر لسواه أن يعرفه، ملم بالأسباب والمتغيرات وأحوال الأرض وأهلها، في المشارق والمغارب.

وربما كانت هذه الفرادة النادرة في معرفة كل ما يعرف وكل ما لا يعرف، سببا في التطور الذي طرأ على طريقة تقديم الأستاذ هيكل، ما بين المرحلة الكتابية والمرحلة الشفهية. ففي الأولى كان عنوان مقاله الأسبوعي «بصراحة مع محمد حسنين هيكل» أي اسما ثلاثيا على طريقة جورج برنارد شو. وأما تلفزيونيا فلا أكثر من اسم واحد، على طريقة هوميروس: مع هيكل.

تنشر «الشروق» نصوص حلقات «مع هيكل» فيظهر فارق شديد، بين النص المحكي وأثره، وبينه مكتوبا. فالعامية محكيةً شيء، ومدونةً شيء، مع أن الرجل واحد والنص واحد. وفي إمكان الراوي أن يرمي على الطريق عشر قنابل بحجة أنه ليس متأكدا تماما من صحة ما يقول. ومع أن «مع هيكل» يقوم على الوثائق المصورة والمعرفة الشخصية الفائقة، فقد رمى إلى سامعيه بكل بساطة، رواية جديدة لوفاة عبد الناصر، الذي يكتب لنا عن حياته وموته منذ 1952. هذه المرة القاتل أنور السادات وأداة القتل فنجان قهوة أعده نائب رئيس مصر بنفسه، في منشية البكري.

ليس الأستاذ هيكل أستاذا في الكتابة وفي السياسة وفي المجالس فقط، بل هو أستاذ أيضا في «البروباغندا» وأثرها في نفسية الناس. وهو يعرف كم أن الثأر من الخصم يحوله إلى ضحية تستدعي العطف. ولعله لم يتوقف طويلا عند الأثر الذي تركه في نفوس الناس، في خطابه الأول عن السادات، عندما تحدث عن لونه وعن أثر الندب في جبينه من كثرة السجود.

يعرف هيكل طبعا أن السادات كان موضع نفور عند الجماهير العربية، ولكن بسبب توقيعه كامب ديفيد، وليس بسبب لون بشرته. ويفهم المرء ضعف البشر وميلهم إلى الانتقام، ولكن التمادي في الاتكال على موت أصحاب القضية، يضر بالإلحاح على روحية الثائر. لا يمكن أن نحول التاريخ إلى مسألة شخصية إلى هذه الدرجة. ونحن في عصر نعرف معه أن توت عنخ آمون مات متسمما، فلماذا لا يطالب الأستاذ هيكل - ومصر - بإجراء فحص الحمض النووي على جثمان عبد الناصر. وإذا كانت لديه هذه الشبهة فماذا يبقى من صحة كل ما كتب عن صحة عبد الناصر وعلاجه في تسخالطوبو على أيدي الأطباء الروس، وماذا عن تلك الشهادات التي أعطاها الأستاذ هيكل لطبيب عبد الناصر الخاص، خصوصا ساعة النزع والوفاة. إن حكاية فنجان القهوة هذه موضوع لثلاثين حلقة على الأقل. خصوصا إذا تبين أن البن كان عدنيا.