كرم متواضع لكنه رائع!

TT

الكرم عند بادية العرب صفة فرضتها عليهم ظروف حياتهم القاسية، فالإنسان المسافر أو التائه في الصحراء الشاسعة القاحلة لن يجد فندقا أو منزلا يؤويه، لهذا فمن حقه إذا شاهد على البعد خيمة منصوبة، ألا يتردد في الذهاب إليها، ولا بد لأهل تلك الخيمة من الترحيب به، أو على الأقل استقباله وإطعامه وسقايته، ولو أنهم لم يفعلوا هذا، فليس عند ذلك الضيف سوى خيارين: إما أن يموت جوعا وعطشا، وإما أن يتحول إلى قاتل، فأصبح ذلك عرفا أو قانونا يسري على الجميع، فالمضيف اليوم قد يحل ضيفا في الغد على سواه، وهكذا دواليك.

وقد قال الشاعر البدوي:

يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل

وكان أهالي مقاطعة ويلز البريطانية يحيون الضيف بقولهم المأثور: أنت ضيفنا، كائنا من تكون. فإن كنت صديقا صافحناك بالأيدي والأفئدة، وإن كنت غريبا فلن تبقى هكذا، أما إذا كنت عدوا، فإن حبنا سيغلبك.

وقد قرأت في مذكرات أحدهم قوله:

كنت مجهدا جائعا بعد أن سرت يوما طويلا في ثلوج وأحراج الشمال، وبعد أن كاد اليأس يهزمني، وإذا بعيني تقع على كوخ صغير من الخشب عند سفح إحدى الهضاب، فارتفعت معنوياتي وغالبت نفسي حتى وصلت إليه ألتمس المأوى، فطرقت الباب، وإذا برجل متغضن الوجه يفتح لي الباب ويشير بيده طالبا مني الدخول دون أن يسألني.

كان الكوخ بسيطا، وهو عبارة عن غرفة واحدة فيها موقد وسرير ومنضدة وكراسي، وثمة سلم يؤدي إلى غرفة صغيرة تحت السقف فيها المؤنة.

ورغم ازدحام المكان بصاحب الكوخ وزوجته وأطفاله الأربعة، فقد رحبوا بي وقدموا لي وجبة ساخنة من الطعام.. صحيح أنها متواضعة ولكنها بالنسبة إلي مع ما كنت فيه من جوع وتعب كانت، دون مبالغة، أشهى من أي وجبة غالية أكلتها سابقا، وما هي إلا دقائق حتى بدأ النعاس يعصف بي، ولاحظ المضيف الحالة التي أنا فيها، فقال لي: آسف! إننا في ضيق هنا بعض الشيء، وعليك أن تتصبر وتحافظ على استيقاظك حتى ينام الصغار. وكان الأطفال قد أدخلوا مبكرين إلى السرير الوحيد، فلما ناموا جميعا فترة من الوقت، إذا بوالدهم ينهض ويحملهم واحدا واحدا، ويضعهم جنبا إلى جنب على الأرض في مؤخرة الغرفة.

ثم التفت لي قائلا: ها هو السرير، إنه لك الآن. فاحتججت بشدة وخجل على حرمان الصغار من راحتهم، ولكنه قال لي مبتسما: أوه! لا تعر ذلك اهتماما، فإنهم اعتادوا على هذا كلما جاءهم ضيوف. وحيث إنني كنت مجهدا لا قوة لي على الجدال دخلت إلى السرير، ولم أع شيئا حتى انبلج الصباح، فلما صحوت ألفيت نفسي على الأرض مع الأولاد، وكان الزوج والزوجة على السرير يغطان في نوم عميق! ولا أدري إلى الآن كيف استطاعا أن يحملاني أو يسحباني من السرير رغم جثتي الثقيلة، ثم يلقياني على الأرض بجانب الأولاد دون أن أشعر؟!.. انتهت روايته. ولا أعتقد أنها قسمة (ضيزى)، بل إنها قسمة عادلة، فالزوجان والأولاد والضيف، كل واحد منهم أخذ حقه ونصيبه من السرير بالتساوي.

إنه كرم متواضع، لكنه رائع.