«وحدة» عبد العزيز.. لماذا هي «الناجحة» في العصر الحديث؟

TT

هناك تقصير سعودي - بلا ريب - في التعريف الفكري السياسي الحضاري الموسع المعمق بنهضة الملك عبد العزيز ووحدته، بدليل أننا لا نزال نرى - إلى اليوم - من يصف هذه النهضة والوحدة بـ«الوهابية» أو «المناطقية» أو «البدوية».. أو.. أو. إلى آخر الأوصاف التي لا تعبر - بحق ودقة - عن طبيعة تلك النهضة ولا عن مقاصدها وإنجازاتها (ونقد الذات مقدم على نقد الآخرين).. وإنما يبوء بالتقصير في التعريف الواجب: «التعليم» الذي اكتفى - في الغالب - بالسرد التاريخي، وتصوير الوقائع برتابة، أي دون فلسفة جذابة لما حدث.. ولماذا حدث؟، وكيف حدث، وفي أي ظروف حدث؟، وهي أسئلة لا يتم تمام الجواب المفصل المؤصل عنها إلا عبر فلسلة رصينة وآسرة: للفعل والحركة والزمن ومباداءات القيادة ومنهجها.. ثم يبوء بالتقصير «الإعلام» الذي اكتفى - في الغالب أيضا - بالمدح المباشر على السطح، دون غوص عاشق ومثابر إلى اللآلئ المكنونة: غوصا مقترنا بالتفنن في عرضها على الأجيال الجديدة بجمال: محفوف بابتهاج نفسي وفكري وثقافي.

منذ ثمانين عاما: أقام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود «وحدة كبرى» - بتوفيق الله - في جزيرة العرب، وذلك من خلال نهضة عظيمة ابتدأها من «الرياض» قبل 112 عاما، وهي نهضة انتظمت كل شيء. فحركت الراكد، وأضاءت المظلم، وأماطت الجهل ونشرت العلم والمعرفة، وأمنت الخائف، وحضّرت النافر من الحضارة والمدنية، وانفتحت على العصر والعالم انفتاح العارف بما يريد، والمريد لما يعرف.

وهذه الوحدة التي مشت في الزمن عقودا ثمانية متتابعة ونجحت حيث أخفق غيرها.. هذه الوحدة الحقيقية يثوي في وجودها المطرد سؤال كبير وهو: ما عوامل نجاحها على الرغم من فشل غيرها، وعلى الرغم من التحديات التي واجهتها عبر هذه السنين الطوال؟.. في هذا المقال سنوجز أهم عوامل نجاحها حيث إن بسط القول فيها يتطلب تأليف كتاب كامل:

1 - العامل الأول: أنها كانت - من حيث الوصف - «تلبية»: زمانية ومكانية لحاجة حقيقية فقد تعبت البلاد يومئذ، وشقي الناس بالتمزق والشتات والفرقة والخصام وتبادل العداوة والعدوان، وكان البلاد والعباد عطشى إلى نمير الوحدة، جوعى إلى غذائها الصحي.

2 - العامل الثاني: أن الوحدة كانت - من حيث الإرادة والاختيار - «مطلبا شعبيا عاما»: استجاب له الرجل العليم بنبض شعبه، المتأهب دوما للتفاعل الصدوق والجسور مع هذا النبض، وهو الملك عبد العزيز.. ولنوثق هذا العامل بالوثيقتين السياسيتين التاريخيتين التاليتين: الوثيقة الأولى تقول: «إنه في 12 جمادى الأولى 1351هـ (10/8/1932م) اجتمع لفيف من الوطنيين بالطائف واتفقوا على أن يرفعوا إلى الملك عبد العزيز (قرارا) وضعوه».. ومن فقرات هذا القرار «الشعبي» فقرة دقيقة تقول: «فإن المجتمعين يرفعون إلى سدة صاحب الجلالة أمنيتهم الأكيدة في أن يتكرم بإصدار الإرادة السنية بالموافقة على تبديل اسم المملكة الحالي إلى اسم يكون أكثر انطباقا على الحقيقة، وأوضح إشارة إلى الأماني المقبلة، وأبين في الإشادة بمن كان السبب في هذا الاتحاد، والأصل في جمع الكلمة، وحصول الوحدة، هو شخص جلالة الملك المفدى، وذلك بتحويل اسم (المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها) باسم (المملكة العربية السعودية) الذي يدل على البلاد التي يقطنها العرب ممن وفق الله جلالة الملك عبد العزيز آل سعود إلى توحيد شملهم، وضم شعثهم».. الوثيقة الثانية هي استجابة الملك عبد العزيز لهذا المطلب الشعبي الذي يقول التاريخ السياسي للبلاد: إن البرقيات من شتى المستويات والجهات والفئات قد انهمرت على الملك الصالح تؤيد ما اتفق عليه لفيف الوطنيين في الطائف.. استجاب الملك «الوحدوي» - بعقيدته وفعله وسلوكه - لهذا المطلب الوطني الكبير العام فأصدر أمره بتحقيق هذا المطلب، وهو أمر بدئ بما يلي: «بعد الاعتماد على الله، وبناء على ما رفع من البرقيات من كافة رعايانا في المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها، ونزولا على رغبة الرأي العام في بلادنا، وحبا في توحيد أجزاء المملكة: أمرنا بما هو آت: المادة الأولى: يحوّل اسم المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها إلى اسم المملكة العربية السعودية، ويصبح لقبنا، ملك المملكة العربية السعودية».. إلى آخر مواد هذا المرسوم الملكي السياسي التاريخي العظيم.

3 - عامل قيام الوحدة على «الإسلام».. وليس على أي عامل آخر: عنصري أو طبقي أو أيدلوجي.. وارتفاق الإسلام والاهتداء به كان منهجا واضحا - أشد ما يكون الوضوح - في فكر الملك عبد العزيز وضميره وإرادته السياسية.. كان هذا المنهج واضحا منذ أن سمى الله ودخل الرياض قبل قيام الوحدة بـ32 عاما.. ففي سويعات العزم على دخوله الرياض 1319هـ نلتقي بهذه البراهين الدالة على وضوح منهج الإسلام في فكره وإرادته: البرهان الأول: أنه وهو يهم بتنفيذ خطته استبقى رجالا بقيادة أخيه الأمير محمد وقال لهم: «لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا لم يصل إليكم رسول منا غدا فأسرعوا بالنجاة واعلموا أننا قد استشهدنا في سبيل الله».. فهذا القائد المقدام يخرج من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، ويَعُد موته في هذه المهمة استشهادا في سبيل الله تعالى.. والمعنى أنه قد أضمر إعلاء كلمة الله الذي هو شرط في صحة الاستشهاد في سبيل الله.. البرهان الثاني: أنه ما إن انحسر ذلك المساء العظيم حتى نهض هذا الفارس فأم رجاله في صلاة الفجر.. ولا نشك في أنه وهو يحافظ على الصلوات - بهذه الهمة - كان يستحضر قول الله سبحانه: «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور»، أي كان يستحضر أن من مقاصد التمكين في الأرض: عبادة الله وحده لا شريك له.. والصلاة رمز عملي وحي ودائم لهذه العبادة.. البرهان الثالث: أنه بعد نجاح المهمة: أمّن هذا المصلح الناجح الفالح الناس على دمائهم وأرواحهم ثم أمر مناديه بأن ينادي: «المُلْك لله.. ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن».. وجملة «الملك لله» برهان ساطع قاطع على أن الملك عبد العزيز إنما كان يكافح ويجاهد لأجل بسط شريعة الله على الأرض التي سيحكمها ويديرها. فالله إنما يمكن المؤمنين في الأرض ويستخلفهم فيها لكي يقيموا شريعته ويعبدوه وحده لا شريك له: «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا».. ولم يترك الملك عبد العزيز نفسه مجالا لتأويل نهضته ومقاصده على غير ما يريد ويقصد فقد حسم الأمر بقوله: «إن خطتي التي سرت عليها ولا أزال أسير عليها هي إقامة الشريعة السمحة».. ولقد صدّق سلوكه وقوله وأصلهما في دستور دائم «عرف بالتعليمات الأساسية» وعلى رأس هذه التعليمات مادة تقول: «جميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح».

4 - العامل الرابع - من عوامل نجاح الوحدة - : هو «التطوير والترقية» وهو مفهوم أساس نجده متألقا في قول الملك عبد العزيز: «إنني أرى أن من واجبي ترقية جزيرة العرب والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة» وليس لأحد أن يتوهم أن هذا «عامل ثانوي» من عوامل نجاح الوحدة. فوحدة «ناقص» تطوير وترقية وإنهاض مستمر وتجدد متتابع إنما هي وحدة جامدة هامدة راكدة متحجرة وهذه آفات تقوض الوحدة تقويضا بل تقوض كيان كل دولة وكيان، ومن هنا رفع الملك عبد العزيز قضية التطوير والترقية إلى «مرتبة الواجب» فرفع ذلك بالفكر والقول - كما تقدم - ورفعه بالفعل والإنجاز عبر نهضة تجديدية انتظمت المدائن والقرى والبوادي وهي نهضة وصفها الزعيم الهندي المعروف جواهر لال نهرو بأنها «قفزة كبرى من ظلمات الجهل والتخلف إلى العصر الحديث قادها ابن سعود».

إن هذا المُلك المكين، وهذه الوحدة العظيمة ليسا في حاجة إلى «التغني» المجرد بهما فهما واقع حقيقي، وإنما هما في حاجة إلى المحافظة المستميتة عليهما وذلك بتجديد الإحساس بقيمتهما في الحاضر والمستقبل، بإنفاذ مضامينهما إلى ضمائر الأجيال الجديدة من خلال تعليم ناجح ماهر، وإعلام عميق المضامين جذاب الإخراج والطرح، ودعوة دينية تجمع بين توحيد الله ووحدة الوطن في أساليب متنوعة قوامها: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون».