الفيل في القاعة

TT

التقى العالم، أغنياء وفقراء ومفلسين، في نيويورك في برنامج ألفية الأمم المتحدة للتنمية لمكافحة الفقر، والمرض، ورعاية المرأة والطفل (40 مليار دولار لهذا البند)، وغيرها من الأهداف النبيلة بحلول عام 2015.

وإذا كان العالم لم يحقق معدلات التنمية المرغوبة في عشر سنوات رخاء، فلماذا يتوقع السكرتير العام للمنظمة بان كي مون و140 وفدا، مضاعفة المعدلات في خمس سنوات تبدو عجافا من منظور 2010؟

ولعل أكثر المشاركين واقعية كانت الزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل، التي قالت الحقيقة بصراحة حرمت منها الإمبراطوريات القديمة فخجلت من مواجهة العالم بها.

فسيطرة الفكر اليساري والليبرالي على الرأي العام في بلد كبريطانيا مثلا، أخرس ألسنة ساستها عن قول الحقيقة (وها هو نيكولاس كليغ، نائب رئيس الوزراء، يعد مؤتمر نيويورك بزيادة الإعانة التي تقدمها بريطانيا للعالم الثالث، بينما تنخفض ميزانية المستشفيات البريطانية، ويواجه الشيوخ والمسنات برد الشتاء من دون زيادة دعم الوقود مع ارتفاع أثمان المحروقات).

وهذا الفكر جعل ساسة الجيل الجديد ينظرون للإرث الإمبراطوري كعار مخجل، رغم تركة الديمقراطية والحضارة والتعليم الراقي والسكك الحديدية والبنية التحتية التي خلفتها بريطانيا وراءها في بلدان الكومنولث.

ولأن بلاد المستشارة ميركل لا تعاني من هذه العقدة، فإنها تحدثت بصراحة يسد زعماء العالم الثالث آذانهم عن سماعها. وبعضهم أدلوا بتصريحات تؤكد أنهم مهرجون أكثر منهم ساسة.

قالت الزعيمة الألمانية إن أهداف برنامج تنمية الألفية لا يمكن أن تتحقق باعتماد بلدان العالم الثالث، خاصة أفريقيا، على المعونات والدعم ومسامحة الديون.

فالواقع أن الأسباب الحقيقية للديون تخالف ما يبيعه زعماء الأنظمة الثورية لشعوبهم عبر إعلام متخلف أو مملوك لهم، أو مأجور (أو مزيج من الثلاثة)، ويحاولون إقناع الدول الصناعية السبع الكبرى والاتحاد الأوروبي به.

الدول المتقدمة بدورها «تأخذهم على قد عقلهم» وتدفع إتاوة الابتزاز عندما يلمحون، أو يضحكون على مراكز أبحاث تنصح بأن «اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش»، أي أن التخلص من الطغاة غير المنتخبين سيأتي برياح غير مواتية؛ والضغط عليهم لعدم تزوير الانتخابات قد يأتي بحكومات من عينة عصابة إرهاب 11 سبتمبر (أيلول) أو من الموجود في غزة أو أفغانستان قبل تحريرها من سيطرة المشعوذين.

سبب فقر العالم الثالث هو الفيل الضخم في قاعة المؤتمر.

فيل اسمه الفساد والرشوة وسرقة أموال الشعوب وتهريبها إلى الحسابات السرية في سويسرا.

فيل اسمه الآيديولوجية العدوانية التي تجر البلاد إلى حروب لا تنتهي. فما أنفقه نظام البعث الصدامي على الحروب مع إيران والعدوان على الكويت، وما جره من كوارث، كان يمكن أن يجعل من العراق بلدا يرتفع فيه مستوى دخل الفرد والخدمات المتاحة له إلى ما ينافس بلدان شمال أوروبا.

فيل اسمه آيديولوجية ثورجية مجنونة تصدر الإرهاب باسم الثورة أو الدعوة أو ما يشابههما من أسماء ما أنزل الله بها من سلطان.

فإيران من أكبر منتجي البترول الخام، أوصلتها آيديولوجية ثورة ولاية الفقيه إلى مرحلة استيراد مشتقات البترول لأنها غير قادرة على تكريره محليا، وتباع المشتقات وبنزين السيارات والمصانع مدعومة، مما يرهق الميزانية لأن الضرائب تذهب إلى دعم السلع الأساسية بدلا من التنمية؛ والشعب يعاني أزمة اقتصادية خانقة، ونظام الملالي الثوري ينفق مليارات على مشاريع لا يمكن لعاقل أن ينفق عليها في الوضع الاقتصادي الإيراني. البرنامج النووي وتخصيب اليورانيوم الذي لا يصدق أحد، من شرق الأرض إلى غربها، أنه للأغراض السلمية، هو جنون اقتصادي.

طاقة شمسية مجانا، وطاقات هيدروليكية تنقص تكلفة إنتاج الطاقة منها عن واحد في المائة من تكلفة الطاقة من المفاعلات النووية (في بلد تعرض للزلازل من قبل). وفي باطن الأرض بترول خام، أي طاقة بالملاليم، لكن الجمهورية الإسلامية تحلم بطاقة (لو استعبطنا وصدقنا أن المفاعلات من أجل الطاقة وليس القنابل) بالملايين نتائجها غير مضمونة وأخطارها أكثر احتمالا من جدواها اقتصاديا.

أو تكون الآيديولوجية من الفكر الماركسي الذي عكس التركيبات الطبقية لمجتمع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، والتي لا يمت واقعها الاقتصادي والتجاري وأنماطه الإنتاجية وطبيعته الاستهلاكية المحدودة بصلة لأنماط استهلاكية من عولمة القرن الحادي والعشرين بثورة اتصالاته وقدرة رأس المال وتحركات البورصات ببرامج كومبيوترية تحول فائضا يلقى في القمامة إلى سلعة يفوق أسهم مخزونها أسعار الذهب، الذي يمكن أن تحول مضاربات البورصات نفسها قيمته إلى ما دون ثمن الفحم.

فالديكتاتور الأفريقي روبرت موغابي، الذي خرب اقتصاد بلاده، من مصدر للدخان، ومن مزارع تحلم أكبر دول أوروبا الزراعية، كالدنمارك وبريطانيا وفرنسا، بإنتاجية تقارب إنتاجيتها عندما كانت جنوب روديسيا.. وإذا بآيديولوجية موغابي تطلق بلطجية حزبه الثورجي الاشتراكي الواحد الحاكم على أصحاب وعمال هذه المزارع فتتحول إلى أرض خراب لا تنتج شيئا، وسكانها عبء على الاقتصاد المتهالك.

نماذج على سبيل المثال لا الحصر.

فأفريقيا، بمواردها المائية (النيل أكبر أنهار العالم) ومناجم الماس والذهب، ومصادر البترول، وشتى أنواع الزراعات والثروات الحيوانية، أصبحت أفقر القارات.

والسبب؟

لأنك تستطيع عد الديمقراطيات فيها على أصابع اليد الواحدة، بينما هناك 50 بلدا من ديكتاتوريات أو أنظمة «أراجوزات» ومهرجين جالسين على ثروات بترولية، وفساد ورشوة من أقصى شمال القارة إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.

ومن شر البلية أن يصف الديكتاتور موغابي العقوبات المفروضة عليه وعلى زوجته (التي تتبضع أحدث موضات الموسم من باريس أربع مرات في العام بطائرة خاصة) وحاشيته لانتهاكه حقوق الإنسان، بأنها عقوبات «غير شرعية». منتهى «الاستعباط»: الرجل الذي يزور الانتخابات ويضرب بلطجيته المعارضة في حماية البوليس الذي تدهس سياراته من يصوت للمعارضة، يستخدم تعبير «غير شرعية» لوصف إجراءات العالم ضد بلطجته!

الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ألقى بنكتة «عقيدية» مفادها أن سبب الفقر هو النظام الرأسمالي الذي «يقف على حافة الموت» حسب وصفه، ناصحا بلدان العالم باتباع نظام اقتصادي جديد؛ وربما يخرج علينا أحمدي نجاد بكتاب أصفر أو متعدد الألوان يتضمن نظرية رابعة أو خامسة أو ثانية عشرة عن فلسفته الاقتصادية التي جعلت رفاهية الشعب الإيراني محل حسد الشعوب الاسكندنافية!

فالإعانات المالية لهذه الأنظمة مثل صرف المخدر بروشتة الطبيب للمدمن بدلا من شرائه من تاجر المخدرات؛ والحل إيداعه المصحة المتخصصة.

وحتى يجد العالم آليات لتوجيه أموال الإعانات إلى استثمارات توظف أبناء هذه البلدان، بعيدا عن مخالب وجيوب «محاسيب» وحاشية، وأسر، وأصدقاء الزعيم المعلم الأوحد، فلن تتحقق أي تنمية ولو في 2115.