حفلة «الزار» الكويتية

TT

من يقرأ أو يسمع كثيرا من وسائل الإعلام الكويتية، وهو خارجها، في الأسبوعين الماضيين، يعتقد أن الكويت قاب قوسين أو أدنى من شفا الاشتعال المجتمعي، حقيقة الأمر هي ليست كذلك. كانت تعاني فقط من حمى مرتفعة نتيجة الاستخدام المفرط لسلبيات «الديمقراطية» أو من يعتقدون أن الديمقراطية تحتاج إلى إشعال الفتيل باتجاه التفجير بين وقت وآخر، للفت الأنظار واستجلاب الأضواء وكسب الأنصار، من طريق نقل العمل المؤسسي إلى محاولة تحشيد الشارع. كثير من العقلاء تساءلوا عن الأسباب التي تجعل بعض السياسيين يرقصون على معزوفة نشاز، ويخضعون للاستجابة السهلة للاستفزاز للإيذاء المجتمع.

السبب، إن أحسنا النية، كان كلاما جاهلا من شخص جاهل، وإن أسأنا النية فهي وصفة تحت عنوان «كيف تشعل الحريق في مجتمع، وتتهم الإطفائية بالتقاعس». قديما قيل إنك لا تستطيع أن تقود الأوركسترا بحصافة إلا وظهرك للجمهور. اليوم كثير من السياسيين يريدون قيادة الأوركسترا ووجوههم نحو الجمهور، فلا الإيقاع ضبط، ولا الجمهور فهم المقصود.

فعلى الرغم من تناول العقلاء من الكويتيين، وهم كثر، من الجانبين (الشيعي والسني) لتلك الأقوال المفرطة في الجهل بالشجب، وقناعتهم أن من شروط المكلف أن يكون عاقلا، ومن ثم شجبهم لما قيل، لأنه صادر من غير عقل، فإن بعض السياسيين أبى إلا أن يستفيد من «حفلة الزار» بتصعيد الأمر إلى درجة التهديد بالاحتشاد والتجمهر وإشعال فتيل الفوضى سقوطا ساذجا في الفخ.

أفضل ما يناسب السياسي هو رد الفعل العاطفي، وكان رد الفعل للقول الفاحش والجاهل هو التأجيج والاحتقان لشق الصف الوطني الكويتي. الاستنكار لهذا التكسب السياسي على حساب الوطن وصل بصحيفة «القبس» المعتدلة إلى أن نشرت الثلاثاء الماضي مقالا في صدر صفحتها الأولى تحت عنوان «لسنا أغبياء». فأغلب الجمهور الكويتي ليس غبيا، كما أنه لا يسجن فكره بين أربعة جدران. إلا أن التأجيج قد يأخذ البعض بعاطفة دون أن يتبين أن من أراد النفخ في النار يرمي إلى شيء آخر تماما، وهو شق الصف الوطني كي يصيب العمل العام بعاهة مستديمة.

جرثومة الطائفية هي أقل الجراثيم الاجتماعية التي يمكن أن تصيب النسيج الاجتماعي الكويتي، لأن المجتمع محصن بثلاثة أعمدة، الأول اسمه الدستور الذي يقول في نصوصه إن المواطنين سواسية، وهم كذلك، فلا مكان في الاقتصاد أو السياسة أو مؤسسات المجتمع المدني أو المؤسسات الأمنية، إلا للمساواة أمام القانون، وهي مفتوحة للمواطنين جميعا، والثاني هو الممارسة التاريخية المجتمعية التي تكونت مع نشوء وتطور المجتمع الذي جبل على التسامح، بل إن التحيز الفئوي العلني مذموم من الأغلبية، ويخلف امتعاضا لدى الشرائح المختلفة متى ما قيل. والثالث هو تجربة الغزو قبل عقدين التي تلاحم فيها الجميع، وشهدوا فوائد ذلك التلاحم.

خلق البعبع المتخيل ثم الاعتقاد أنه حقيقي لا ينطلي إلا على «الأغبياء» كما وصفت صحيفة «القبس» المشهد، قالت: «لم نفقد عقلنا وصوابنا، وإن كان بعضنا مارس الجنون، عن سوء نية ومصلحة، أو عن غباء - لا فرق - لأن النتيجة واحدة. لا، لسنا من دون بصيرة لكي ندرك أن طباخي الفتنة يضحكون في سرهم من غباء بعضنا المنقطع النظير، وهم يمررون ما يريدون وهم ضامنون أننا في مكان آخر، خارج التاريخ والعقل والمنطق، نصفي حسابات لا علاقة لنا بها».

هذه الجمل المليئة بالامتعاض وأمثالها لخصت الموقف العقلاني لمعظم الكويتيين تجاه حفل الزار الذي انطلق. ولم ينتبه كثيرون إلى أن عقولا أخرى أرادات أن تأخذ المواطن الكويتي إلى مكان آخر، عقلاني ومستقبلي. حيث أصدرت مجموعة الـ26 وهي مكونة من رجال ذوي خبرة ورأي في نفس الوقت، أكاد اسميهم «نخبة الظل» بيانا مطولا وعقلانيا أشارت فيه إلى ما يجب أن تكون عليه الأجندة الكويتية الحقيقية، فواجب الاهتمام في نظرها هو بالتنمية ومربط الفرس هو وضع خطط لتفادي ما سماه البيان بالمرحلة الحرجة التي يمكن أن تواجه الكويت في الزمن المنظور، وسببها تضخم في الإنفاق وتشوه في الهيكل الاقتصادي. قرع جرس الإنذار من هذا المنظور لم يتحمس إليه أحد من «النشطاء السياسيين» كأن الطار يضرب مقلوبا، تحمس كثير منهم للاشتراك في حفل المزايدة على القول الفاحش. وهو إشارة إلى أن البعض يفهم «الديمقراطية» على أنها استعداد للوصول إلى كرسي مجلس الأمة، وركب الموجة العاطفية، دون النظر إلى القضايا الحقيقية التي تواجه المجتمع من منظور تنموي أو تبصر الأضرار نتيجة عطب النسيج الاجتماعي وتناسي المحظور الأمني الإقليمي، خاصة مفاعيل الحصار الدولي على الجارة إيران وتبعاته.

الجهل واعظ سيئ كما يقال، والتنادي للحشد خلف أزمات مؤقتة من أجل تسجيل نقاط لدى الجمهور الناخب، هو في الحقيقة خلل في المعايير، تدفع البعض للخضوع لمصالحهم الشخصية والتضحية بالمصالح العامة، وهنا يغيب الفصل بين المهم والكارثي. الكارثي في الحالة الكويتية أن تتوالد الأزمات التي يشعلها الحمقى وتواجه بإستراتيجية مرتجلة، فيسقط المجتمع تحت بذاءة المتعصبين. فعندما يمارس التجاذب السياسي على ملعب الطائفية مفروشا بالجهل، تصبح الخسارة مؤكدة للوطن.

لقد شهد العمل السياسي في الكويت هبوطا حلزونيا إلى الأسفل في السنوات الأخيرة، وأقيمت مناحات حول الهامشي والجزئي، وتجاوزت النخب في كثير منها الجوهري. كنا نعتقد أن الديمقراطية - كما فهمناها - لها قوة افتراضية تحث على التعاون بمشاركة جميع اللاعبين، فوجدنا أنها مطية للمتشددين، ليس ذلك عيبا في الديمقراطية نفسها، ولكنه بالتأكيد عيب في اللاعبين، لأن المشكلة حتى لو انطفأت شعلة التأزيم في القضية المطروحة اليوم، فإن المحتمل أن تفتح عناوين أخرى للتأزيم.